الأحداث التي بدأت في مسرح البالون وامتدت إلى ميدان التحرير، مثلت لحظة من لحظات الخطر التي تتعرض لها مصر. فهي حالة يتداخل فيها العفوي والمخطط، والمشروع وغير المشروع، ولا يمكن الفصل بينهما، بل ولا يمكن تحديد الجهة المسئولة، نظرا للتداخل الحادث بين مختلف الأطراف. فأهالي أسر الشهداء لديهم مظالم أو مطالب، وهي مشروعه، مما يجعلهم يتحركون بتلقائية للتعبير عن موقفهم. ولكن مع تحركهم تتحرك مكونات أخرى، لديها مصالح أو أهداف، تختلف عن أهداف أسر الشهداء. فهناك مجموعات تتحرك من أجل نشر الفوضى، وهي تتحرك أحيانا بتلقائية ودون تخطيط، وتتحرك أحيانا أخرى بتخطيط مسبق. ولا أحد يستطيع تحديد هذه المجموعات بدقة، فهناك فئات متضررة مما حدث، لأنها وظفت داخل بنية النظام السابق، وأصبحت في خطر بعد سقوط النظام السابق، أو أصبحت بلا وظيفة وبلا مورد، لأنه لم يعد هناك نظاما مستبدا يريد توظيفها في خدمته. وعندما تتحرك المظاهرات العفوية المشروعة، تتحرك معها أيضا الشائعات، وبعضها عفوي غير مقصود، وبعضها الآخر مقصود وموجه. ولكن بعض الإشاعات تصدر عن حالة الغضب والسيولة الحادثة في مصر، وقد يكون مطلقها لا يعرف نتائجها، لأنها جزء من حالة عدم اليقين التي تعقب التغييرات الكبرى. فعندما ينفجر الغضب في الشارع، نصبح أمام مشهد جماعي، تتحرك فيه الناس حسب لحظات الانفعال الجمعي، والتي لا يحكمها منطق معين، بقدر ما يحكمها شعور جمعي يتجمع بتلقائية، ويحوي ما هو عفوي، وما هو مخطط ومدبر. لهذا تجد مجموعات البلطجيين ومن يساندهم أو يدفعهم، في كل موقف جماعي غاضب، فرصة للحركة من أجل نشر الفوضى ودفع جهاز الشرطة للتراجع. فهناك العديد من الفئات التي تريد نشر الفوضى، ومنع عودة الأمن، لأنها تحاول الاستفادة قدر الإمكان من مرحلة ما بعد الثورة، أو مرحلة الفوضى والسيولة الناتجة عن حدوث تغييرات كبرى. وقد أقام النظام السابق بنية عميقة غاطسة، تسانده، مشكلة من البلطجيين ورجال العصابات وتجار المخدرات، وكل هذه الفئات تحاول أن تحصل أكبر مكاسب ممكنة في ظل المرحلة الانتقالية، لأنها لا تعرف ما سيحدث بعد ذلك. ولا ننسى أن العديد من الناس تم توظيفهم لمصلحة النظام السابق، ومنهم الجمع الكبير الذي كان يعمل في الانتخابات لصالح الحزب الوطني المنحل، وبعضهم ليسوا من البلطجيين، ولكن من سماسرة الانتخابات، وكل هؤلاء يدفعون ثمنا لوضع ليسوا من صناعه، بقدر ما كانوا من العاملين به، أو المجبرين على العمل به. يضاف لكل هذا، حالة الغضب العام التي شملت أغلبية قطاعات المجتمع، وكان منها الفئات المحرومة، وهي قطاع واسع من المجتمع، وهي مازالت تشعر أن أوضاعها لم تتغير. وهي في الحقيقة تمثل مشكلة كبرى، حيث أن الفئات المحرومة عددها كبير، وتعيش في ظروف حياة غير إنسانية، ومشكلتها لن تحل سريعا. وهذه الفئات تشعر أنها منسية حتى بعد الثورة، لذا تحاول أن تعبر عن غضبها، مما يجعلها تتحرك بتلقائية تعبيرا عن وضعها المعيشي، وتعبيرا عن غضبها مما عانته وتعانيه من تجاهل واضح. والفئات المحرومة شاركت في الثورة، بل وكان لها دور بارز في التصدي لقوات الشرطة، وهي في الوقت نفسه من الفئات التي عانت من قهر أجهزة الأمن، والتعامل غير الإنساني الذي قامت به بعض أجهزة الأمن، وأصبح بينها وبين قوات الأمن ثأر واضح، وهي أيضا جزء مهم من الفئات التي هاجمت أقسام الشرطة في جمعة الغضب، وكان لها دور مهم في إسقاط جهاز الشرطة بالكامل. وهذه الفئات عندما تتحرك، تجد نفسها مدفوعة في مواجهة أجهزة الشرطة، وهي لهذا لديها ميل عفوي للتعامل الغاضب مع أجهزة الشرطة. وعندما يفتح الشارع أمام حالة من الغضب من أي فئة كانت، تتجمع مختلف الفئات التي تتحرك في الشارع تعبيرا عن غضبها الكامن، كما تتحرك الفئات التي تريد نشر الفوضى. لهذا يتجمع ما هو عفوي مع ما هو مخطط، وما هو مشروع مع ما هو غير مشروع. فبعض التحركات السلبية التي تحدث في الشارع، عفوية في حقيقتها، رغم أنها غير مشروعة في ذات الوقت، فهي تعبير عن رغبة بعض الفئات في نشر الفوضى، حتى لا تدفع ثمن ما حدث من تغيير، رغم أن حركة هذه الفئات قد لا تكون موجهة أو مخططة من طرف بعينه. هذا ما جعل ما حدث في مسرح البالون وصولا لما حدث في ميدان التحرير، يبدو بصور مختلفة، تختلف حسب الفئة التي يتم التركيز عليها في الحدث. فمن ينظر لما هو عفوي، يجده تعبيرا عن الرأي، ومن ينظر لما هو مخطط يجده مؤامرة. ومن ينظر لما هو عفوي ومشروع، يراه حقا ويدين عنف الشرطة، ومن ينظر لما هو عفوي وغير مشروع يراه جريمة، ويلتمس العذر لجهاز الشرطة. والمشكلة تكمن في بقاء الشارع مفتوحا لحالة السيولة والحركة غير المنظمة، والتي تفتح الباب أمام الخلط بين العفوي والمخطط المشروع، والعفوي والمخطط غير المشروع. لأن ما يحدث في الشارع هو امتزاج بين عدة عناصر، تجعل المشهد خارج السيطرة، وتجعل نتائجه خارج السيطرة أيضا، مما يفتح الباب أمام احتمالات عديدة، قد تؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج الفوضى على عدة مراحل، مما يؤخر عملية البناء.