دخل رجل عجوز -يناهز الثمانين من العمر- لإزالة بعض الغرز من إبهامه، وكان يُحَدِّث الطبيب ويقول له: إنه في عجلة من أمره، فلديه موعد مهم. فقدَّم الطبيب له كرسياً، وتحدَّث معه وهو يزيل الغرز وسأله: هل لديك موعد مع طبيب آخر؟ أجاب: لا؛ ولكني أذهب إلى دار الرعاية؛ لتناول الإفطار مع زوجتي! فقال: ولماذا دخلت زوجتك دار الرعاية؟ أجاب: هي هناك من سنوات؛ لأنها مصابة بالزهايمر! انتهى الطبيب من التغيير، ثم سأله: هل ستقلق زوجتك لو تأخرت قليلاً عنها؟ أجاب الرجل: كلا؛ إنها لم تعد تعرف من أنا منذ خمس سنوات! فسأله: إذاً لماذا أنت ذاهب إليها؟ ابتسم الشيخ وهو يضغط على يد الطبيب بقوة ويتمتم: هي لا تعرف من أنا.. لكن أنا أعرف من هي؟
إنه الوفاء، ذلك الخلق الإنساني الراقي الرفيع، والمعنى النبيل الذي لن يتحقق حينما نقتصر على انتظاره من الآخرين، أو حين نلومهم على التفريط فيه، بل عندما نفهم مكنونات هذا المعنى السامي ونتحلى به ونتقي الله فيمن وثقوا بنا وأحبونا فنقابل إحسانهم بالإحسان ونتفانى في إسعادهم وحفظ جميلهم ومعروفهم.. يدل الوفاء على الصدق مع النفس والآخرين، وإخلاص ونقاء المشاعر، والالتزام بالعهود مع المحبوب.. فلا جنسية ولا جنس محدد للوفاء كما حاولت أن توهمنا الأمثال الشعبية ووسائل الإعلام والأعمال الدرامية العربية بإظهار غدر وخيانة الرجل على طول الخط والتأكيد على أن الوفاء مقصور فقط على المرأة التي تتحمل شتى صور الظلم والأذى من زوجها ، ومع ذلك تصبر وتتحمل من أجل الأبناء وخوفا من الوقوع في براثن شبح الطلاق ونظرة المجتمع القاسية للمطلقات.. فكما أن هناك الكثير من الزوجات الوفيات اللائي ضربن أروع الأمثال في الإخلاص والعطاء والتضحيات التي لا حدود لها بحكم قوة التحمل والمشاعر الرقيقة المفطورات عليها، يوجد أيضًا نماذج رائعة من الرجال الأوفياء الذين تحملوا وصبروا لسنوات طوال على زوجاتهم المريضات أو غير القادرات على الإنجاب دون زجر أو ضجر، بل على العكس كانوا خير من أعانوهم على الصبر على البلاء بحبهم وإخلاصهم الشديد لهن ورعايتهن خير رعاية.. لكن ولأن الدراما والإعلام في وطننا العربي مخترقان وموجهان إلا فيما ندر، كان هناك تعمد واضح لإخفاء تلك النماذج المشرفة للأزواج الأوفياء، وإظهار علاقة الرجل بالمرأة بأنها علاقة تحدٍ وحرب أحد طرفيها منتصر والآخر مهزوم، فضلًا عن التأكيد الدائم على أن معظم نساء العرب مقهورات مظلومات مخدوعات لا ينعمن بالسعادة مع أزواجهن، وأن الرجل الشرقي خائن وظالم ومخادع حتى يبرروا للمرأة الانحراف ويزينوه لها!..
وها هو زوج من المغرب يسخّر حياته للسهر على راحة زوجته بعدما فقدت البصر والسمع، ويتواصل معها عن طريق كفها، ويسعى بكل الطرق لعلاجها. وزوج آخر من الجزائر يضرب نموذجا في الوفاء، وهو يعتني بزوجته بعدما أصابها الشلل، فيترك عمله ويجند نفسه للعناية بها. ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد ظلَّ وفياً لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد في حياتها وبعد مماتها، بذكر محاسنها وفضائلها وحسن معشرها وإكرام صديقاتها وكل من أحبوها، حتى غارت منها عائشة وقالت: «أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا»، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها".
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.