كان الأزهر من بين مؤسسات متعددة أعادت الروحَ إليها ثورةُ 25 يناير، بعد أن طمسها النظام السابق وحوَّلها إلى هياكل ومبانٍ إدارية منزوعة (الدَّسم)، أقصد: منزوعة الروح والإرادة! والذي يقلّب صفحات مصر الحديثة منذ تأسيسها على يد محمد علي، يتبين له أن تاريخ مصر كان مرتبطًا ارتباطًا عضويًّا بالأزهر، بحيث كان الأزهر ومصر وجهين لحقيقة واحدة. وحين قدمت الحملة الفرنسية مصر سنة 1798، كان الأزهر هو "الجامع" الأول و"الجامعة" الأوحد، وكان علماؤه هم قادة المجتمع ونخبته الفكرية والوطنية، كما شرح ذلك الأستاذ فتحي رضوان في كتابه "دور العمائم في تاريخ مصر الحديث". وكان الدور القيادي للأزهر يقوم على سببين، كما يوضح الأستاذ محمد جلال كشك في كتابه المهم "ودخلت الخيل الأزهر": الأول: أن الأزهر يستمد دوره من الفهم المتميز للدين ورسالته في الحياة، ولهذا لم يكن رجال الأزهر مجرد رجال كهنوت منعزلين عن مجرى الحياة العامة. الثاني: أن الأزهر كان هو مصدر التعليم والثقافة في المجتمع، فلم يكن التعليم قد انقسم بعد إلى تعليم مدني وشرعي.. ولذلك تجمعت عنده كل خيوط العمل الوطني والاجتماعي. ونتيجة لهذا الدور المهم للأزهر في إذكاء الروح الوطنية، كان رد نابليون ردًّا عنيفًا، ولم يهدف فقط إلى "كسر" المقاومة التي يقودها الأزهر، بل إلى "إذلال" رمزها الكبير ممثلاً في الأزهر الذي ضربه نابليون بمدافعه من فوق جبل المقطم، ثم دخله بخيوله وحطم الأبواب وأطفأ القناديل ومزق الكتب والمصاحف، وحوَّله إلى اصطبل للخيول، وشرب فيه جنوده الخمر وفعلوا المنكرات. وكانت الخلاصة المهمة التي توصل إليها نابليون - كما يقول كشك- أنه ما لم تتم تصفية الدور القيادي للأزهر فلا يمكن لأي استعمار غربي أن يستقر على ضفاف النيل. وبعد إجلاء الحملة الفرنسية، سلّم علماء الأزهر بقيادة السيد عمر مكرم عرشَ مصر لمحمد علي الذي أقسم على المصحف ألا يتخذ قرارًا دون مشورة العلماء، ولا يفرض ضريبة فيها ظلم للمصريين!.. وهذا لغز محير كما يذكر الأستاذ جمال بدوي في كتابه "محمد علي وأولاده"؛ إذ كيف لم يجد علماء الأزهر واحدًا من بينهم يولّونه عرش مصر، ورضوا بمحمد علي ذلك الضابط الألباني؟! هل هو الحسد بين العلماء الذي منعهم من أن يسلموا السلطة لواحد منهم، أم إن مصر كانت ما تزال ولاية عثمانية ولم يكن من المسموح أن يتولى عرشها أحد خارج الدائرة العثمانية؟! المهم أن محمد علي بدأ بالصدام مبكرًا مع الذين كانوا سببًا في توليته، وراح ينفرد بهم واحدًا تلو الآخر، ونفى السيد عمر مكرم إلى دمياط ثم إلى طنطا حتى مات في منفاه! وهذا الصدام المبكر يدل على أن الأزهر كان من القوة بحيث جعل محمد علي يبدأ بالصدام معه حتى من قبل أن يحسم معركته مع المماليك! وحين نجح محمد على في تحجيم الأصوات المعارضة له من الأزهر، فإن ذلك كان البداية المؤسفة لإبعاد الأزهر تدريجيًّا عن الحياة العامة.. خاصة بعد أن صادرت ثورة يوليو 52 أوقاف الأزهر التي كانت تمنحه استقلالية في الرأي والقرار.. حتى وصلنا إلى الشيخ محمد سيد طنطاوي الذي كان يصرح - دون خجل!- أنه (موظف) في الدولة!! صحيح أننا وجدنا في العقود الأخيرة نماذج تفخر بإسلامها وتعتز بدينها ولا تخشى أن تقول كلمة الحق، أمثال المشايخ جاد الحق ومحمد الغزالي ومتولي الشعراوي، إلا أن ذلك ظل في حدود الأفراد ولم يشكل تيارًا عامًّا قويًّا. ورث إذن الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تركة ثقيلة، ثم جاءت ثورة 25 يناير لتمثل تحديًا كبيرًا للخطوات الإصلاحية التي كان الطيب قد بدأها، خاصة أن موقفه من الثورة بدا لكثيرين مترددًا أو منحازًا للاستقرار، حتى ولو كان "الاستقرار" يعني بقاء النظام الفاسد! لكن الأزهر بما له من رصيد في الوجدان المصري، استطاع أن يتجاوز تلك المحنة بأقل الخسائر، خاصة وأنه لم توجد مؤسسة إلا وأصابها شيء من سطوة نظام مبارك وجبروته، فالكل كان في الهمِّ سواء! ولذلك فإن اللقاءات المتعددة التي عقدها د. الطيب مع قادة الحركات الإسلامية ومع المثقفين وإصداره "وثيقة الدولة الحديثة"، إضافة إلى موقفه القوي الرافض لاستئناف الحوار مع الفاتيكان قبل الاعتذار عن إساءاته المتكررة للإسلام.. كل ذلك مما يبشِّر ب "عودة الروح" للأزهر. فوسط حالة الاستقطاب الحاد التي تنذر بالخطر، والاتهامات المتبادلة بين التيارات اللبرالية والعلمانية والأخرى الإسلامية.. فإن الأزهر هو المؤهل لأن يكون وسيطًا بل وقائدًا لتلك التيارات لترسيخ أسس العيش المشترك، والحفاظ على هوية مصر. ولا أتصور أن الأزهر مطلوب منه أن يمارس العمل السياسي المباشر، مثلما كان الحال قبل محمد علي، فقد استقرت الدولة الحديثة بمؤسساتها المتعددة والمتخصصة، ولذلك تبقى مهمته الكبرى في أن يؤدي دورًا تنويريًّا حارسًا للإسلام ومنهجه الوسطي. إن "عودة الروح" للأزهر، شروطٌ ضروري ل "عودة الوعي" للمجتمع.