يصعب في ظل هموم السياسة والتي تطحن أعصابك وتلاحق أنفاسك هذه الأيام ، أن يأخذك بعيدا عنها بعض الوقت كتاب ، خاصة أن يكون كتابا ثقافيا عميقا ، ولكن هذا ما حدث معي هذا الأسبوع بالفعل ، فبصبر العالم وجهد الباحث الجاد واستنارة المثقف الموضوعي ودأبه الذي عز وجوده في زماننا هذا ، قدم لنا المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة تحفته الجديدة في كتابه "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام" ، والذي صدر عن مجلة الأزهر في عددها الجديد "ذو القعدة 1435" ، وفي هذا الكتاب ستكتشف كقارئ أو مثقف أو حتى أكاديمي أنك وقعت في خداع كبير حول صورة طه حسين المفكر والأديب والذي حمل لقب عميد الأدب العربي ، ستكتشف أن قطاعا من المؤسسات الثقافية الرسمية المصرية والعربية ضللت الرأي العام عن شخصية هذا الأديب الكبير ، ووقفت بالذاكرة والوعي الجمعي عنه في مرحلة مبكرة من حياته ، مرحلة رعونة الشباب وقلة خبرته حيث كان فيها مندفعا في الانبهار بالفكر الغربي والحضارة الغربية خاصة بعد رحلته الباريسية ، متنكرا لتراثه الإسلامي وطاعنا في ثوابت دينية عظيمة وجليلة ، ومثيرا لشبهات حول القرآن الكريم ، ومتحدثا عن أن الحضارة المصرية هي حضارة فرعونية وليست عربية إسلامية ، وأن طريق النهضة أن نسير سير الأوربيين ونتبع طريقتهم في خيرها وشرها وحلوها ومرها ، طه حسين الذي قدموه لنا هو صاحب "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر" وصاحب السيرة النبوية كأساطير "على هامش السيرة" ، وللأمانة فإن كثيرين من الباحثين وقعوا في هذا الفخ ولا أبرئ نفسي من ذلك في بعض ما كتبته عنه حتى أتى هذا الباحث العظيم الدكتور محمد عمارة ليكشف لنا عن الجانب الآخر في حياة طه حسين رحمه الله ، بل الوجه الختامي لرحلته الفكرية والأدبية الطويلة ، التي انتهى فيها مدافعا عن الإسلام والعروبة ، ومنحازا لهوية أمته ، ومدافعا عن الشريعة الإسلامية ، ومدافعا عن أصالة التراث العربي الإسلامي ، ومتهما للثقافة الغربية بالتحيز والتضليل واستغلال الشعوب تحت دعاوى التنوير والمدنية ، كما يكشف عمارة تفاصيل مدهشة عن الرحلة الحجازية لطه حسين ، وبكائه على أستار الكعبة وتبرئه مما كتب سابقا ، وإعلانه أنه ولد من جديد ، ونكتشف مع الباحث الرائع أن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" كان الكتاب الوحيد من كتب طه حسين الذي كان يرفض إعادة طبعه طوال حياته ، مؤكدا أنه لم يعد يصلح بحاله ، وأنه يحتاج إلى تصحيح وتنقيح ومراجعة ، وهو الكتاب الذي أبدى فيه انحيازه للثقافة الغربية وأن مصر جزء من أوربا وليس من الشرق . يكشف لنا محمد عمارة عن محطات طه حسين الفكرية والروحية ، وهي ثلاث محطات أساسية : الأولى محطة الاغتراب النفسي والفكري والتي ظهرت فيها كتاباته الشابة المبكرة المغترة بالثقافة الغربية ، ثم مرحلة التحول والمراجعة ، ثم مرحلة العودة الكاملة لهويته العربية الإسلامية ، ويعرض عمارة موقف طه حسين عند كتابة الدستور المصري الجديد في عام 1953 ، حيث اختاره "الضباط الأحرار" ضمن لجنة الخمسين لصياغة الدستور الجديد لمصر ، فتصدى لمحاولات التقليل من مرجعية الشريعة الإسلامية بقوة ، وكتب يقول : "إنه من المقطوع به أن الأغلبية لن تقبل أن تخرج عند وضع الدستور على ما أمر به الإسلام .. ولا بد لنا من أن نحتاط ، فنقول : إنه ليس هناك أي مقتضى يسمح لنا بأن نعدل عن نص القرآن .. وما دمنا قلنا أن حرية الأديان والعقائد مطلقة فلا بد أن تحترم الأديان جملة ، ولا يكون الإيمان إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعضه الآخر ، فإذا احترمت الدولة الإسلام فلا بد أن تحترمه جملة وتفصيلا" . أيضا يعرض عمارة لموقف طه حسين القوى من حركات التنصير التي نشطت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين ، حيث كتب كلاما لو نشره "كاتب إسلامي" الآن لاتهم بالتطرف ، فقد كتب طه حسين منتقدا جهود التنصير التي تشرف عليها إرساليات أجنبية في مصر قائلا : "ما بال الأجانب عندنا لا يرعون حرمة الضيافة والجوار .. ما بالهم يلحون في إكراه المسلمين على أن يخرجوا من دينهم ويستبدلوا منه دينا آخر ؟ ما بالهم يحتالون لذلك ويكيدون له " إلى أن يصل إلى تحيته لأهالي بورسعيد الذين تصدوا لبعض عمليات التنصير وقال "وهذه أنباء بورسعيد تحدثنا منذ أمس بأنهم قد أسرفوا في هذا العدوان حتى أكرهوا صبية لم تتجاوز الخامسة عشرة على الكفر ، فلما أبت عليهم أعملوا في جسمها السياط وسلطوا عليها العذاب ، ولولا أن انتهى أمرها إلى المسلمين من أهل المدينة فاستعانوا بالشرطة لاستنقاذ هذه الصبية لاضطرت هذه البائسة إلى الكفر أو إلى الموت ، إننا في بلد إسلامي يجب أن يعز فيه الإسلام ، ولا يذل" . ونقل الدكتور عمارة عن طه حسين نص الدعاء الذي لهج به لسانه عند الكعبة المشرفة وهو يبكي ويتحشرج ويحاول من حوله أن يأخذه بعيدا وهو يتشبث بأستار الكعبة والحجر الأسود حتى أبكى من حوله كما نقل رفقاء الرحلة ، وكان نص الدعاء المأثور الذي ردده طه حسين عند الكعبة يقول "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ، لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت" ، وقد أوصى الأديب الراحل الكبير بأن يكتب نص هذا الدعاء على قبره ، رحمه الله .