النجاح السريع والناجز لعملية الإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة في مصر ، رغم شرعية الصندوق والانتخابات الديمقراطية للبرلمان والرئاسة ، أغرت الإمارات بالقدرة على تنفيذ نفس السيناريو في ليبيا للإطاحة بالسلطة القائمة والتي كان الإسلاميون والإخوان يمثلون عصبها وغالبيتها ، وكان المخطط ثلاثي الأضلاع ، تحرك عسكري ، وتمويل إماراتي سخي للنشاط العسكري والسياسي ، ورجال أعمال ينشطون في تحريك قنوات فضائية يمتلكونها لصناعة رأي عام متفهم للتحرك الجديد ، وكان الرهان على اللواء المنشق خليفة حفتر للقيام بالدور العسكري وتم تقديمه للرأي العام العربي والليبي بوصفه "سيسي مصر" ونشطت حملة إعلامية ضخمة للترويج له وخطبه وتهديداته وتصويره على أنه الرجل الليبي القوي القادر على دحر الإرهاب ، وبالغ حفتر كثيرا في هجومه العنيف على الإخوان في ليبيا تحديدا مغازلة لكل من الإمارات ومصر وأنه قرر أن يصفي وجودهم نهائيا في البلاد ، في لغة دموية وإقصائية بالغة العنف ولا تراعي أنه يتحدث عن سلطة منتخبة من الشعب الليبي "المؤتمر الوطني" ، واستلهم حفتر بشكل كاريكاتيري لغة الفريق السيسي في مصر وأعلن أنه مفوض من الشعب الليبي بالتصدي للإرهاب ، على الجانب الآخر كان محمود جبريل منسق العملية الانقلابية سياسيا ، وهو وزير سابق في عهد القذافي وشارك في الثورة قبل أن ينقلب عليها عندما لم يصل من خلالها للسلطة كما كان يطمح ، وجبريل هو رجل الإمارات المدلل ، ومقيم هناك بصفة شبه دائمة ، ويحظى بدعم مالي واستخباراتي أسطوري ، ويتداول الليبيون أنه كان يعرض شراء المقعد الواحد في المؤتمر الوطني "البرلمان" بحوالي خمسة ملايين دولار أمريكي ، ويعتبر "عبد المجيد مليقطة" الممثل الشخصي لجبريل ونائبه في إدارة "تحالف القوى الوطنية" الذي يمثل حزبه الأساس هناك ، ومليقطة هو شقيق عثمان مليقطة زعيم ميليشيا القعقاع التي تمثل الذراع العسكري لحزب محمود جبريل وهي التي حاصرت البرلمان واختطفت أعضاءه واحتلت وزارات وهددت بتدمير مبنى البرلمان وكانت تحتل مطار طرابلس بالكامل ، وفي الجانب الإعلامي كان الارتكاز على دور "حسن تتناكي" وهو أخطر رجال الأعمال الليبيين من حيث اتساع الثراء الكبير ، وهو أحد أهم أصدقاء سيف الإسلام القذافي نجل الطاغية ، وتتناكي يقيم في الإمارات معظم الوقت حيث مكاتبه الرئيسية ويحظى بتسهيلات ودعم كبير هناك ، ويمتلك قنوات فضائية ويمول صحف ومواقع الكترونية بميزانيات كبيرة للغاية تركز نشاطها بالكامل على الداخل الليبي لدعم مشروعات التحرك العسكري لقوات خليفة حفتر . في القاهرة ينشط بشكل سري وبعيدا عن الإعلام أحمد قذاف الدم ، الصندوق الأسود للنشاطات الإجرامية للقذافي ، وكاتم أسراره ، عمر سليمان ليبيا ، وكثير من عمليات الاختطاف والتصفية لنشطاء ليبيين كانوا في مصر وعواصم عربية وأوربية مفتاح أسرارها عنده ، وكان القضاء الليبي قد طالب بتسليمه بعد الثورة لمحاكمته على جرائمه في حق الشعب الليبي ، إلا أن مصر رفضت تسليمه بدون إبداء أسباب ، وعندما قامت قوات الأمن بمحاصرته أيام مرسي في فيلته الفاخرة بالزمالك أطلق عليها الرصاص فتم القبض عليه ووجهت له تهمة الشروع في قتل رجال الشرطة ، غير أن ملفه القضائي تمت تسويته بعد 3 يوليو 2013 ، وأبرئت ساحته ، حيث ينشط في علاقات متشعبة مع شخصيات مهمة في قبائل على الشريط الحدودي في مصر وليبيا ، كما يمثل محور ارتكاز فلول القذافي المقيمين في القاهرة والداعمين لعمليات خليفة حفتر والانقلاب في ليبيا وينسق علاقاتهم مع محمود جبريل والإمارات . بدأ سيناريو الانقلاب بتحرك خليفة حفتر على الأرض في بني غازي لسحق كتائب الثوار الممثلة للجيش الشرعي ورئاسة الأركان ، وفور تحركه أعلنت كتائب بالجيش الليبي تم شراء ولائها بالمال الإماراتي انضمامها لحفتر وعدم طاعتها لقيادتها العسكرية الشرعية في رئاسة أركان الجيش الليبي ، وانضمت فرقة الصاعقة في بني غازي وقطاع من بقايا سلاح الجو الليبي في طبرق وبني غازي ، وفي الغرب الليبي أعلنت ميليشيات القعقاع الذراع العسكري لتحالف محمود جبريل انضمامها لمعركة حفتر التي أطلق عليها "معركة الكرامة" وتمت تغطية الحدث باحتفالية إعلامية ضخمة في الإعلام الخليجي وقنوات فلول القذافي أمثال حسن تتناكي ، غير أن المفاجأة كانت في صلابة قوة كتائب الثورة الليبية في بني غازي التي تصدت لاعتداءات حفتر وطردته خارج بني غازي وأوقعت خسائر فادحة في صفوف قواته واستولت على معداته ، وعرضت منها مدرعات إماراتية حديثة ، كما سحقت تمرد كتيبة الصاعقة واستولت على معسكرها الرئيس ، كما تحركت كتائب الثورة في طرابلس باتجاه مطارها الدولي حيث دارت اشتباكات عنيفة انتهت بتطهير المنطقة والمطار من الانقلابيين . عندما بدأت تظهر انهيارات مشروع حفتر ، وأدركت الإمارات أن السيناريو المصري يصعب تكراره في ليبيا ، حيث الثورة مسلحة ومفردات الواقع مختلفة ، بدأ الضغط في اتجاه إنجاز انتخابات برلمانية عاجلة وضخ مالي أكثر سخاءا وإرهاق عسكري للبرلمان الليبي "المؤتمر الوطني" من خلال قصفه واختطاف أعضائه لإجباره على الرحيل ، وحققت الإمارات والانقلابيين تفوقا نسبيا في الانتخابات الجديدة ، إلا أن أخطاء استراتيجية فادحة وقعوا فيها بفعل الاستعجال أدت إلى قلب طاولة السيناريو الانقلابي البديل على رؤوسهم ، أهمها تجاوز الإعلان الدستوري وعقد البرلمان في مدينة طبرق حيث سيطرة ميليشيات خليفة حفتر ، وإصدار سلسلة من القوانين والإجراءات كشفت المخطط كله ، بدءا من إقالة رئيس الأركان الشرعي الموالي للثورة ، وتعيين شخصية موالية لحفتر والانقلابيين ، وطرد قوات درع ليبيا جيش الثورة الفعلي من رئاسة الإركان واعتبارها كيانا إرهابيا !! ، وكذلك طرد كتائب الثوار في بني غازي من الجيش الليبي وتصنيفها جماعات إرهابية ، وتوفير مظلة للغزو الأجنبي للبلاد عن طريق طلب تدخل دول الجوار عسكريا لسحق الإسلاميين وتمكين الانقلابيين من السلطة على الأرض ، وضم ميليشيات "عثمان مليقطة" إلى الجيش واعتبارهم جزءا من هيئة أركان الجيش الليبي ، وهي سلسلة اجراءات متشنجة وعصبية ومتعجلة ، لم تضع أمام ثوار ليبيا سوى التحرك العاجل من أجل التصدي للمؤامرة وتحالف فلول القذافي مع الإماراتيين مع بعض القوى القبلية ، وتم إحياء عمل "المؤتمر الوطني" وهو برلمان الثورة الأول ، كما تم الإعلان عن تشكيل حكومة وطنية للإنقاذ برئاسة عمر حاسي الذي تعهد ببسط الأمن في البلاد واحترام الديمقراطية ومواجهة التطرف والإرهاب وإعادة الإعمار ، في الوقت الذي يبحث فيه برلمان الانقلابيين في طبرق تشكيل حكومة أخرى ، لن يكون لها أي نفوذ حقيقي على الأرض . المشكلة الآن ، أن أي دعاوى لجعل مجلس النواب الجديد هو المرجعية والحكم لم تعد مطروحة ، لأنه أصبح جزءا من الأزمة ومارس دورا إقصائيا معاديا للديمقراطية ، وتخندق مع الانقلابيين الذين لم يحترموا الديمقراطية أساسا ويعتبرون الثورة الليبية مؤامرة ، وأعلنوا مرارا من قبل أنهم لا يقبلون سلطة "المؤتمر الوطني" رغم أنه برلمان منتخب ، كما حملوا السلاح في وجه الدولة وجيشها ومؤسساتها من قبل ، وبالتالي لا يمكن أن يتمترسوا بقصة الصندوق ، أيضا دول الجوار ، وخاصة مصر من العسير أن تتحدث عن احترام صندوق الانتخاب والبرلمان ، لأن 3 يوليو أسقطت صندوق الانتخاب للرئاسة وصندوق الانتخاب للبرلمان ، باعتبار أنهما عرضا الوطن للخطر وأن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابات ، والمجتمع الدولي أيضا يصعب جدا أن يلزم قوى الثورة الليبية بمرجعية مجلس النواب الجديد ، لأنه قبل تجاوز مخرجات الصندوق في التجربة المصرية ، وتعامل مع واقع جديد تم تشكيله . ولم يعد هناك من سيناريو للانقلابيين سوى البحث عن مظلة دولية تسمح لقوى إقليمية بالتدخل العسكري لهزيمة قوى الثورة وجيشها وتمكين الانقلابيين من السلطة في ليبيا ، لأن الأمريكيين والأوربيين غير مستعدين لإرسال جندي واحد إلى التراب الليبي ، غير أن تلك اللعبة يصعب اكتمالها الآن لتشتت الموقف الدولي في أكثر من ملف ، خاصة السوري العراقي والأوكراني ، ولأن الغرب قلق جدا من أن يؤدي أي تدخل أجنبي إلى بعثرة الخريطة السياسية في ليبيا على النحو السوري وصناعة فراغات أمنية مما يولد تنظيمات متطرفة ودموية على نمط داعش في الشمال الأفريقي ، ويميل المجتمع الدولي إلى إطلاق عملية حوار سياسي صعبة لحل الأزمات ، وأيضا يصعب التدخل من جانب أن الشعب الليبي في غالبه منحاز للثورة ، وكتائبه مسلحة بشكل جيد ولديها خبرات قتالية عالية وتملك عقيدة قتالية ثورية متوهجة ودافعة للتضحية حتى النهاية ، وهو ما يجعل أي تدخل إقليمي بمثابة غرق في وحل دموي بلا أفق ، حتى لو انحسر الهدف في النهاية إلى تقسيم ليبيا واقتطاع الجزء الشرقي وتكوين دولة جديدة تسيطر على القسم الأكبر من آبار النفط الليبي .