تفترش أرض بوابة مسجد صلاح الدين بحي المنيل، وتفر الدموع من عيناها لتختلط بصورة للراحل أحمد سيف الإسلام حمد، مكتوب عليها عبارة "وداعا". هذا مشهد لفتاة عشرينية، كان في قلب مشهد أوسع يضم مئات من الرموز السياسية والمثقفين المصريين، ينتظرون أداء صلاة الجنازة علي الحقوقي صاحب الباع الطويل في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، سيف الإسلام (63 عاما)، الذي لفّه في لحظات وداع الوطن، علم مصر، وقبع في صندوق التف حوله عدد من شباب ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك. وما أن انتهت صلاة العصر حتى بدأت صفوف من المعارضين، الذين شاركوا في ثورة يناير وفرقت الخلافات السياسية بين بعضهم لاحقا، تتوحد لأداء صلاة الجنازة على روح الفقيد؛ ففي الصف الأول وقف خالد علي ( المعارض اليساري)، وعبد المنعم أبو الفتوح (رئيس حزب مصر القوية المحسوب على التيار الإسلام السياسي)، ومحمد علي بشر ( القيادي البارز بجماعة الإخوان المسلمين)، وعمرو حمزاوي (الليبرالي المعارض)، وهيثم محمدين (أحد شباب ثورة يناير والقيادي بحركة الاشتراكيين الثوريين)، وكمال أبو عيطة، (القيادي الناصري). وفي باقي الصفوف، وقف حشود من الشباب والرموز المعارضة يدعون للفقيد بالرحمة، ومن بينهم محمد عبد القدوس، وعلي كمال، القياديان بجماعة الإخوان، ومحمد القصاص، القيادي بالتيار الثالث (رافض لحكم الإخوان والجيش)، وممدوح الكاشف، القيادي بحزب الحرية (المعارض)، وعبد الرحمن يوسف، أحد شباب الثورة، وخالد داوود، القيادي بحزب الدستور المعارض، وزيزو عبده، قيادي بجبهة طريق الثورة (معارضة للإخوان والعسكر)، وإمام يوسف، عضو الهيئة العليا لحزب الأصالة (سلفي). وعقب انتهاء صلاة الجنازة، قال سمير عليش، أحد قيادات حركة "كفاية" المعارضة، لمراسل وكالة "الأناضول": "هذا هو سيف الإسلام.. شعاره الاجتماع علي قيمة، كما نحن الآن وكما اجتمعنا في 25 يناير". واتفق معه محمد عبد القدوس، القيادي بالإخوان، الذي قال عن سيف الإسلام، إنه "كان يدافع عن المظلومين بمصر كلها دون تفرقة". قطع الحديث، مسارعة كثيرين يتقدمهم خالد علي، لحمل جثمان سيف الإسلام والخروج به من المسجد. وما أن ظهر جثمانه بالخارج، حتى تعالى هتاف هيثم محمدين: "أحمد سيف حافظين أفكارك .. وهم دول هيكملوا مشوارك". وحارة كهتافات محمدين وغيره من الشباب، تساقطت دموع فتيات وسيدات رمقن جثمان سيف الإسلام فوق أكتاف محبيه، قبل أن يودع في سيارة لنقله إلي مثواه الأخير بمقابر التونسي، غربي القاهرة. ومع مغادرة السيارة محيط المسجد، هرع المئات إلى المقابر لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الفقيد، ورؤية نجليه علاء وسناء المحبوسين علي ذمة قضايا متعلقة بالتظاهر وسمحت لهما وزارة الداخلية بحضور مراسم الدفن. وفي مقابر التونسي، لم تكن لحظات الغروب عادية؛ فشمس تودع الأرض إيذانًا بقدوم الليل، وأخرى توارى التراب بعد تاريخ من النضال عن حقوق الوطن والمواطن. فقد سبق وصول الجثمان، توافد مئات من الشباب، وقيادات أمنية بزي مدني لتأمين مراسم الدفن لتواجد نجلا الفقيد علاء وسناء. وكان المشهد مهيبا أمام المقابر، ويستدعي أجواء ثورة يناير؛ فبعض اللافتات تظهر سيف الإسلام وهو يقف في وجه شرطي يمسك عصا غليظة، وأخرى تحمل لفظ "وادعا"، وثالثة مدون عليها "كان صوت من لا صوت له"، بينما الأصوات تصدح في حضور القيادات الأمنية "سيف الإسلام نام وارتاح.. ده تاريخك تاريخ الثورة"، و"للحرية درع وسيف.. هو نضالك يا أحمد سيف". وألهب ظهور نجله علاء؛ سجين كل الأنظمة من حسني مبارك إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، شعور المشيعين، وتعالت هتافات: "يسقط يسقط حكم العسكر"، "ثورة راجعة من جديد". ولم يحتك الأمن مع المشيعين، وبدأ المشهد سلسا بتدخل خالد عبد الحميد، أحد شباب الثورة، وتنظيمه للمشيعين. ومع ظهور جثمان سيف الإسلام، لف الحزن الأجواء، وارتفع صوت سيدة يخنقها البكاء وهي تقول: "مع السلامة ياسيف .. سبتنا (تركتنا) للتعب.." وأخرى ترفع صورة سيف الإسلام وهو يقف في وجه الشرطة، وتقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل". دخل جثمان سيف الإسلام إلى غرفة تضم مقبرته وعالمه الأخير، وبالخارج رُسمت صورة لم تظهر من قبل، وضمت شخصيات مؤيدة ومعارضة للسلطات الحالية، أبرزها القيادي الإخواني، محمد عبد القدوس، والقيادي الناصري المعارض للجماعة، حسين عبد الغني، وأحمد أمام، القيادي بحزب مصر القوية (إسلامي)، وناصر أمين، الحقوقي المؤيد للسلطات المصرية. داخل الغرفة، تواجد أفراد عائلة سيف الإسلام، زوجته ليلي سويف، وأبناءه منى وسناء وعلاء، في وداع أخير لقائدها، وجميعهم حبس دموعه مع مواراة جثمان المحامي المدافع عن الفقراء والمظلومين الثرى. وخرج علاء ممسكا بيد أخته ورفيقته في السجن، سناء، ليودع المحتشدين شاكرا حضورهم ومعلنا موعد العزاء، السبت المقبل، بمسجد عمر مكرم القريب من ميدان التحرير (ميدان الثورة)، بوسط القاهرة. وبصوت حاسم وقبضة يد مضمومة، صاح علاء في ختام كلمته، "أبويا مات شهيد وأنتم عارفين مين اللي قتله"، ودخل مسرعا إلى قبر والده. هذا الغموض الذي بدا في عبارة الابن، وصوته الحاسم، أشعل موجة من الهتافات بين المشيعين أبرزها: "حسبنا الله ونعم الوكيل .. يسقط يسقط حكم العسكر"، و"أحمد سيف الإسلام نام وارتاح.. ثورة راجعة تاني من جديد".