أخيرًا وبعد ماراثون انتخابي استطاع حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان حسم الموقعة الانتخابيَّة لصالحه كما كان متوقعًا، ليفوز بالأغلبية لثالث مرة على التوالي في سابقة لم يحققْها حزب تركي من ذي قبل. فقد تمكَّن الحزب من الفوز بما يقرب من 50% من إجمالي مقاعد البرلمان، ولكنه لم يصل إلى نسبة الثلثين الممثلة ب 367 صوتًا، والتي كانت -في حال فوزه بها- ستعطيه الضوء الأخضر لتغيير الدستور. وكان الجدل الدائر قبل العملية الانتخابيَّة قد انصبَّ على تحديد النسبة التي سيفوز بها حزب العدالة وهل سيتمكن من الفوز بأغلبية قوية تمكِّنه من إعادة كتابة الدستور أم لا. فسينان أولجين من مركز الدراسات الاقتصادية والسياسة الخارجية في إسطنبول يقول لرويترز قبل الانتخابات: "هذه الانتخابات ليست حول من يفوز ولكن عما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيفوز بأغلبيَّة قويَّة تمكِّنه من إعادة كتابة الدستور". مأزق المشروع العلماني لم يكن كمال أتاتورك يتخيَّل وهو يؤسس مشروعه العلماني في دولة الخلافة العثمانيَّة أن مشروعه الأعنف بين نظرائه في العالمين العربي والإسلامي سينتهي بوصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلاميَّة إلى سدَّة الحكم في دولة ظلت لعقود ينظر إليها على أنها "النموذج" لما يمكن تسميته بالأصوليَّة العلمانيَّة، ولكن المشروع العلماني التركي رغم شراسته وقوته إلا أنه لم يتمكن من الصمود طويلًا وبدأ يفقد الأرضيَّة التي وقف عليها طويلًا حتى وصلنا إلى نتيجة الانتخابات البرلمانيَّة الحالية والتي تمكن حزب العدالة والتنمية من الفوز بها. وجاء في المركز الثاني حزب الشعب الجمهوري بنسبة 25.9% ممثلة ب135 مقعدًا محققًا أفضل نتيجة له منذ حوالي ثلاثين عامًا يليه حزب الحركة القوميَّة ب13% من الأصوات أي 53 مقعدًا ثم المستقلون الأكراد بنسبة 6.6% أي 36 مقعدًا. وهذا الفشل العلماني في الدولة "النموذج" لبقية المشاريع العلمانيَّة في العالم الإسلامي يعود إلى عدة أسباب: 1. فرض المشروع العلماني على الشعب التركي بقهر السلاح والسلطة؛ حيث عمد أتاتورك إلى بناء عقيدة الجيش التركي على حماية المشروع العلماني حتى ولو اضطرَّ إلى التدخل بنفسه في مرات عدة للحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى الحكم أو عند شعوره بالخطر تجاه الإرث الأتاتوركي، وما زال الشعب التركي يتذكَّر انقلاب سبتمبر 1980 والذي يعتبر الأكثر دمويَّة في تاريخ تركيا؛ حيث قتل المئات في الشوارع واعتقل 650 ألف شخص بينهم سياسيون ومفكرون ونواب وصحافيون، وجرت محاكمة 230 ألف شخص في 210 آلاف قضية حُكم على 517 بالإعدام فيما أُدين 7000 شخص بتهم عقوبتها السجن المؤبَّد وتمَّ إعدام 50 وتوفي 299 في الاعتقال. كما أن الجيش لم يتورعْ عن الانقلاب السلمي على رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان عام 1997 وإجباره على التخلي عن الحكم. 2. الانتهاك المستمر للحريات العامة وحقوق الإنسان تحت زعم حماية المشروع العلماني، وتأتي قضية الحجاب كمثال واضح على الحرب التي شنَّتها النخب العلمانيَّة على الحجاب وسنّ القوانين المناهضة، والتمييز الحاصل بسبب "الزي" رغم تعارضه التام مع كل المواثيق والعهود الدوليَّة. 3. فشل المشروع العلماني في تحقيق الرفاهية للمواطن التركي، بل إن الوضع الاقتصادي التركي قبل مجيء حزب العدالة كان منذرًا بالخطر الداهم نتيجة انتشار الفساد وغياب الرؤية الاقتصاديَّة السليمة؛ فقد وصلت نسبة التضخم قبل حزب العدالة إلى حوالي 37% وقامت مافيا رجال الأعمال المتحالفة مع طبقة السياسيين الفاسدين بنهب وتهريب ما يقرب من 46 مليار دولار من البنوك التركيَّة، كما أن الديون التركية لصندوق النقد الدولي وصلت إلى 23 مليار دولار، ولم يكن دخل الفرد التركي يتجاوز عتبة ال 2500 دولار على أفضل تقدير. 4. فشل المشروع العلماني في معالجة الملفات الكبرى كقضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتي يرى فيها المواطن التركي نموذجًا سيئًا للتعامل المذلّ مع الدولة التركيَّة، وأدى وقوف تركيا طويلًا على باب الاتحاد الأوروبي إلى إهمال العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي، كما أن الحكومات العلمانيَّة المتعاقبة فشلت في حل المعضلة الكرديَّة، والتي تفاقمت مع نقل حزب العمال الكردستاني لهجماته الإرهابيَّة داخل العمق التركي. لذا كان لافتًا للنظر أن ولايات مثل أنطاليا وهاتاي ومرسين وجنه قلعة، وهي ولايات كانت مقفلةً لحزب الشعب الجمهوري في السابق، صوتت الغالبية فيها للعدالة والتنمية، وهذه مسألة تحدث لأول مرة، أن تخرج هذه الولايات عن تفضيلها لحزب الشعب الجمهوري. وقال دوروسون أوجالير، وهو متقاعد يبلغ من العمر 52 عامًا لرويترز في إسطنبول "لا أعتقد أن الانتخابات ستغير الحكومة ولا أريدها أن تتغير". حزب العدالة وملفات الولاية الجديدة لعلَّ اللافت في أداء أردوغان وحزب العدالة أنه يسير وفق رؤية استراتيجيَّة ممنهجة تعمد إلى بناء تركيا الحديثة عبر سلسلة من الإجراءات المتتابعة دون اللجوء إلى أسلوب "الطفرات" الذي قد تنعكس آثاره السلبيَّة على مجمل الأداء للحزب، لذا فإن أمام حزب العدالة العديد من الملفات الهامَّة التي عليه أن ينجزها قبل الوصول إلى 2023 موعد مئوية الجمهورية التركية ومن أهمها : أولًا : الملف الاقتصادي وهو أهمّ ما يشغل المواطن في أي مكان؛ فوفقًا لتقرير تركي أعدَّه "كريم بلدجي"، فقد حققت صادرات تركيا أرقامًا قياسيَّة وهي تحطّم الرقم تلو الآخر ووصلت إلى 100 مليار دولار، وقد نما الناتج المحلي الإجمالي خلال الأربع سنوات ونصف من 181 مليار دولار ليصل إلى 400 مليار دولار. أمَّا معدّل الدخل الفردي فقد ارتفع من 2589 دولار للفرد عند مجيء حزب العدالة والتنمية للحكم إلى حدود 5700 دولار، وبينما كان النمو الاقتصادي في تركيا يشكِّل نسبة 2.6% منذ الأعوام 1993 وحتى العام 2002، فقد ارتفعت هذه النسبة بشكلٍ هائل ومضاعف وسريع إلى 7.3% في الأعوام ما بين 2003 -2007. ووفقًا لتقرير صادر عن مركز "ستراتفور"، فإن الاقتصاد هو أحد أهم العوامل التي ستسمح لتركيا باستعادة دورها الإقليمي الذي كان سائدًا قبل تسعين عامًا، وقد وضع حزب العدالة والتنمية هدفًا اقتصاديًّا طموحًا يسعى لتحقيقه بحلول عام 2023 – بمناسبة مرور مائة عام على قيام الجمهورية التركيَّة– وهو أن تكون تركيا من العشر دول الأولى في العالم اقتصاديًّا. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التغيرات بعيدة المدى التي يتوقع أن تطرأ على الخريطة الاقتصاديَّة العالميَّة، والدور التركي المتنامي والرائد على المستوى الدولي، يتوقّع من تركيا أن تشكل وضعًا اقتصاديًّا مهمًّا على المستوى العالمي، وأن تنجح في تحقيق هذا الهدف الطموح؛ وذلك بسبب تركيبتها السكانيَّة الشابة، وقوتها العاملة الماهرة المدربة وكذلك تمتع تركيا بقطاع مصرفي قوي وحيوي، كما أنه وبحكم وقوع الجمهورية التركيَّة على مشارف الشرق الأوسط وأوروبا، فإنها تُعتبر -نوعًا ما- مركز نقل وإمداد للنفط والغاز الطبيعي. ثانيًا : الملف السياسي يعدّ حزب العدالة والتنمية الحاكم في برنامجه الانتخابي المواطنين الأتراك في حال تجديد الثقة فيه لدورة ثالثة بأن يطرح صياغة جديدة لدستور مدني لتركيا يشكّل أرضيَّة صلبة لما وعد به من إصلاحات سياسيَّة تأتي على رأسها مسألة الحلّ السياسي والسلمي للقضية الكرديَّة؛ حيث يعتبر أردوغان الدستور الحالي الذي سطّره الجنرالات الأتراك في آخر انقلاب عسكري قاموا به هو الذي يشكّل اليوم عائقًا كبيرًا أمام مشروعاته الإصلاحيَّة لتعزيز الديمقراطيَّة، ومنها حقوق المواطنين الأتراك ذوي الأصول الكرديَّة وغيرها من القضايا العالقة ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة كقضية الحجاب والتعليم الديني وحق تعلّم اللغة الأم (مثل : الكردية والعربية وغيرها..)، ولكن حزب العدالة الذي فشل في تحقيق الأغلبيَّة اللازمة التي تمكِّنه من إجراء التعديلات الدستوريَّة بمفرده سيجد نفسه مضطرًّا للجوء إلى التحالفات مع القوى البرلمانيَّة الأخرى لإجراء هذه التعديلات. وقال جنكيز آكتر أستاذ العلوم السياسية في جامعة بهجشير بإسطنبول لرويترز: "الدستور الجديد يتطلب توافقًا في الآراء وحوارًا مع الأحزاب الأخرى والمجتمع ككل" كما أن حزب العدالة سيجد نفسه مطالبًا بمواصلة حملته لترويض المؤسَّسة العسكريَّة ودمجها في بنية الحكومة. ثالثًا: ملف العلاقات الخارجية لعلَّ أبرز ما ميز الولايتين السابقتين لحزب العدالة اتجاه بوصلته الخارجيَّة صوب العمق العربي والإسلامي والذي بَدَا واضحًا في تحرير العلاقات التجاريَّة البينيَّة مع سوريا ومدّ جسور التعاون مع مصر، والوقوف بكل قوَّة مع القضيَّة الفلسطينيَّة، والذي ظهر جليًّا في الاعتداء الصهيوني على غزة وتداعيات الاعتداء الصهيوني على أسطول الحريَّة، ويبدو أن الحزب سيتجه إلى تعزيز هذا الاتجاه في الفترة الجديدة، خاصةً بعد الثورات العربيَّة في تونس ومصر وغيرهما... يقول الكاتب التركي هاكان البيرق: "إن التحولات التي تشهدها البلدان العربيَّة -لا سيَّما بعد نجاح ثورتي الشعبين التونسي والمصري- ستفرض على أنقرة واقعًا جديدًا يجب أن تتعامل معه بعقلانيَّة" ويرى البيرق أن "تركيا التي يراها معظم العرب نموذجًا ديمقراطيًّا ناجحًا ينتظرون منها تفاعلا حقيقيًّا وتعاونًا مع مطالب الشعوب العربيَّة في تحقيق العدالة وبناء أنظمة حكم ديمقراطيَّة" مشيرًا إلى "أن أنقرة تبدو أكثر انحيازًا لمطالب الشعوب العربيَّة لقناعتها بأن إقامة الشراكات الحقيقيَّة مع الدول العربيَّة ستحقق نجاحًا أكبر مع أنظمة ديمقراطيَّة في الساحة العربيَّة" ولكن هذه الشراكة ليست فعلًا أحادي الجانب، بل إنها ثمرة التفاعل الخلاق بين الجانبين، ومن هنا فإن الكاتب التركي سنان برهان يقول: "إن الشعوب العربيَّة مطالَبة بالانفتاح أكثر على كل مكوّنات الشعب التركي بمختلف أطيافه السياسيَّة والفكريَّة والدينيَّة، وليس الانخراط في الشراكة مع الإسلاميين والمحافظين الأتراك فقط". فهل يتمكَّن حزب العدالة من وضع الأُسُس الكفيلة بتحقيق أحلامه في الولاية الجديدة والوصول بتركيا إلى مصاف العشر الكبار بحلول مئوية الجمهورية التركية في 2023 حتى ولو لم يكن يومها في الحكم؟! المصدر: الاسلام اليوم