من السهل جدا أن تلحظ أن القنصليات المصرية قد اعتادت على أداء أدوار مغايرة لما هو مطلوب منها بالخارج .. فهذه القنصليات جل اهتمامها هو أداء الإجراءات القنصلية والتي في اعتقادي أن دافعها الأول هو الجباية وتحصيل إيرادات للإنفاق على أعضاء هذه القنصليات، فضلا عن توريد جزء منها للميزانية المصرية، وهذا الجزء بلاشك هو العنصر الحاسم في تقييم أداء كل قنصلية عن غيرها. كما تؤدي هذه القنصليات أدوار تقليدية أقرب إلى الدبلوماسية أو التخديم على الصفوة السياسية القادمة لزيارة هذه الدول، ولكنها تفتقد لأي أدوار اقتصادية أو مالية تستطيع من خلالها خدمة المصريين العاملين في الدولة التي تتواجد فيها هذه القنصلية .. بل أن هذه القنصليات تتسبب في خسائر كبيرة لمصر نتيجة إهمالها أداء أدوار هامة يمكن أن تسهل أو تجذب المصريين بالخارج لتحويل أكبر قدر ممكن من العملات الأجنبية والتي مصر أحوج ما تكون لها دائما. فجل اهتمام القنصليات بالعمليات التجارية هو تسهيل مهمة حصول المصريين على التوكيلات التجارية ، ولكن لماذا لا تتدخل هذه القنصليات في تسهيل عقد الصفقات التجارية أو العقارية بين المصريين بالخارج وبين البائعين أو المشترين المقيمين بمصر .. فكافة المصريين المقيمين بالخارج يتطلعون للشراء أو البيع بمصر خلال تواجدهم بالدول الأجنبية، ولكن يمنعهم عدم إيجاد الجهة الموثوقة التي يمكن أن تتمم هذا البيع أو الشراء بشكل موثوق فيه .. بمعنى أنه يمكن تسهيل إجراء البيع والشراء بين مصريين (أحدهما بمصر والآخر بدول أجنبية) من خلال إيجاد آليات أتمام الصفقات والإشهار العقاري فيما بين مكاتب خاصة يمكن إنشاؤها بمصر تكون تبعيتها لوزارة الخارجية ومكاتب أخرى تنشأ بالقنصليات بالخارج .. إن معظم المصريين العاملين بالخارج يتطلعون لشراء العقارات بمصر، وغالبا ما يلجئون لتأجيل هذه القرارات لأكثر من عام أو عامين حتى فترة أجازاتهم السنوية لإنهاء الشراء، وذلك لأنه لا توجد آليات للبيع أو الشراء أثناء تواجدهم بالخارج .. ولنا أن نعلم أن أكثر من نصف المصريين بالخارج غالبا ما تأتي أجازاتهم كل عامين. أما الأمور المزعجة بالقنصليات بالخارج، فإنها تتمثل في أن أعضاء هذه القنصليات يتعاملون كممثلين دبلوماسيين بعيدا كل البعد عن التفكير في أداء المهام الاقتصادية أو التجارية أو المالية الهامة .. مثلا حتى الآن لا يوجد أي رابط بين هذه القنصليات وبين البنوك المصرية .. وتمثل تعاملات البنوك المصرية التقليدية نقطة البغض الرئيسية لكافة المصريين العاملين بالخارج نظرا لتأخرها وقصورها وضعفها في أداء أية مهام هامة للمصريين بالخارج، فهي حتى الآن فشلت في إيجاد فروع حقيقية بالدول الأجنبية محل تركز المصريين، وعلى رأسها دول الخليج، وأخص السعودية والإمارات، والتي يفتقد فيها المصريون كثيرا لتواجد أو التواصل مع البنوك التي بها حساباتهم. فأنت كمصري مقيم بالخارج ولديك حساب بأحد فروع البنوك المصرية بالخارج، فإن حسابك أشبه بالمجمد حتى تسافر ، لا يمكنك أداء أية عمليات فعلية عليه إلا بنزولك وتوقيعك الحضوري .. بل إن الكارثة أنه حتى الآن لا تزال البنوك المصرية لا تمكن المصريين بالخارج من فتح حساب جاري إلا بالتوقيع الحضوري أمام موظف الفرع يعني بعد السفر .. وبالمقارنة فإن البنوك السعودية على سبيل المثال الآن تمكنك من أداء كافة العمليات إلكترونيا بشكل غير حضوري، بما فيها التحويل والسحب والإيداع ، فكل شئ يمكنك إجراؤه إلكترونيا، في حين أن أفضل البنوك المصرية لا يمكنك سوى من الاطلاع على رصيد حسابك الجاري على النت، وهذه خدمة حديثة جدا لم يتجاوز عمرها "سنة" .. أيضا جل اهتمام البنوك المصرية بدول الخليج تمثل مؤخرا بإيفاد موظف وحيد للمدن الرئيسية بدول الخليج لا يستطيع سوى أداء مهمة فتح الحساب وأداء مهام صغيرة، مستخدما فيها الإيميل، وناهيك فإنك تنتظر أياما طويلة حتى يتم أداء عمليتك فيها. والأمر المستغرب أنه لا يوجد حتى الآن أي علاقات أو روابط بين البنوك والقنصليات، وهذه العلاقات كان يمكن أن تحل مشكلات كبرى في أداء العمليات البنكية الهامة للمصريين بالخارج، مثل إجراء السحوبات أو الإيداعات الكبيرة طالما لا يوجد فروع للبنوك المصرية بالخارج. أيضا من المهام المفقودة بالقنصليات أداء مهام ترتبط بالبورصة المصرية، كافة الجهات الرسمية المصرية تحمس المصريون بالخارج للشراء بالبورصة، ولكن هل تتوقع الحكومة المصرية أن يقوم كل مصري بالسفر خصيصا للمساهمة في اقتصاد مصر بالشراء في البورصة ؟ هل يعقل أن ندعو المصريين للشراء بالبورصة ولا نيسر لهم أي وسيلة للشراء السهل الإلكتروني ؟ هذا الشراء كان يمكن أن يتم بسهولة من خلال القنصليات .. وحتى البورصة المصرية في حد ذاتها حتى الآن لا تمكنك بسهولة أو من خلال آليات واضحة من إتمام الشراء والبيع الإلكتروني، مثلما وصلت إليه في بورصات الخليج .. إن هذا الأمر وعدم وجود مكاتب أو ممثليات للبورصة بالخارج يعتبر أمر يقف حجر عثرة أمام مساهمات المصريين بالخارج في البورصة. باختصار إن الأمثلة بالعشرات حول فقدان أدوار هامة كان يمكن أن تؤديها القنصليات بالخارج كان يمكن أن تساعد بها الاقتصاد المصري بسهولة .. وفي اعتقادي أن فقدان هذه الأدوار يجئ كنتيجة حتمية لاهتمام هذه القنصليات بأداء مهام الجباية مثل استخراج جوازات السفر أو التوكيلات أو تراخيص السفر .. إن هذا الزمن قد تغير والآن جميع المصريون بالخارج يتطلعون لمهام وأدوار جديدة بالقنصليات لمساعدتهم على التواصل الفعلي والحقيقي التجاري والمالي مع مصر (إجرائيا وإداريا) .. بحيث يفترض أن تقوم هذه القنصليات بإتمام كل شئ بحيث تجعل المصري المقيم بالخارج كأنه موجود بمصر .. وهذه الأدوار الجديدة ستضيف لمصر كثيرا ماليا واقتصاديا، لأنها ستسهل تدفق تحويلات أكبر وستسد فجوة زمنية لهذه التدفقات المالية للعملات الأجنبية تعادل العام تقريبا .. أما ما هو أهم فهو يجب أن تتغلب البعثات المصرية بالخارج على نظرات التعالي للمصريين العاملين بالخارج (مهما كانت وظائفهم ومؤهلاتهم أو هيئاتهم) والتي دائما ما تحملهم المسئولية عن حدوث أية مشكلات بينهم وبين أية جهات رسمية بالدول التي يقيمون بها .. وينبغي استبدالها بالبدء من منظور أن المصري على حق، ونحن معه لجلب كافة حقوقه مثلها مثل كثير من قنصليات دول أقل مكانة من مصر. (*) مستشار اقتصادي [email protected]