عندي سببان يجعلاني أعارض رجب طيب أرودغان ، لكن عندي ستة وثلاثين سببا آخر يجعلاني أؤيده وأضعه في مصاف القادة الكبار في تاريخ العالم الحديث ، بالنظر إلى حجم الإنجازات التي حققها لبلاده ، والجاهل وحده الذي ينظر إلى السببين ويتجاهل الستة وثلاثين سببا ، وأنا على ثقة من أن معارضي أردوغان في خارج تركيا والحانقين عليه يؤذيهم نجاحه وليس فشله ، وجميعهم ربما تمنى فشله ، لكي يثبتوا فشل النموذج الذي يمثله ، نموذج التعايش بين الحداثة والإسلام ، بين الديمقراطية والتدين ، الذين زاروا تركيا قبل حوالي خمسة عشر عاما أو يزيد ، ثم زاروها هذا العام أو الذي قبله يدركون حجم الفارق ، يدركون بسهولة أنهم أمام دولة أخرى غير تلك التي زاروها قبل ذلك ، مستوى الرفاهية للمواطنين ، مستوى الخدمات العامة ، مستوى البنية الأساسية من طرق واتصالات ومواصلات ونظافة ونظام وتنظيم وقانون يضاهي أي نموذج يمكنك تذكره في العواصم الأوربية الكبرى ، مستوى النمو الاقتصادي الصناعي والزراعي والخدمي ، مستوى الثراء الإعلامي من صحف وفضائيات ومجلات وإذاعات يستحيل أن يحصرها متابع بمفرده لو أراد ، وكان الثراء الإعلامي موجودا قبل أردوغان في تركيا ، ولكن ثراء التنوع والتعددية الحقيقية المذهل الآن لم يكن موجودا ، فاعلية الشارع السياسي التركي ، لم يكن مألوفا أن ترى مليونيات جماهيرية في المدن الكبرى ، الآن يمكن أن ترى ذلك كل أسبوع ، هناك شعور مختلف لدى المواطن التركي ، وإحساس أكبر بكرامته وحريته وإرادته وثقة بقدرته على التغيير ، هناك بنية مؤسسية حقيقية وليس ديكورية للدولة ومؤسسة تشريعية بالغة الشفافية والتنوع والقوة ، وسلطة تنفيذية تخضع لرقابة شعبية وبرلمانية وإعلامية وقضائية عنيفة للغاية ، وسلطة قضائية قوية ومستقلة وإن كانت تعاني آثار معارك الدولة العميقة مع التطور الجديد في البلاد ، هناك تنوع بشري مذهل في السلوك والأخلاق والعادات والطباع والتعبير عن الرأي والدين والعرق لم يكن مألوفا أبدا فيما مضى . النجاح الأعظم لأردوغان ومسيرته السياسية هو نجاحه في تحييد المؤسسة العسكرية التركية القوية والخطيرة ، وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية المخيفة ، وإخضاعها لسلطة الشعب وقياداته المنتخبة ، كانت سيطرة القادة العسكريون وأجهزتهم الأمنية مطلقة على البلاد ، وكل الديمقراطية التركية هي مجرد واجهات "للسلطة" الحقيقية ، سلطة الجيش ، وعندما تستعصي أي انتخابات وأي حكومة ، يتدخل الجيش فيلغى الانتخابات ويحل البرلمان ويعطل الدستور ويحل الحزب الحاكم أحيانا ويعتقل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء ويمكن أن يحكم عليه بالإعدام من خلال القضاة الموالين للعسكر ، وكان الجنرالات يملكون شبكة معقدة من الولاءات المنظمة التابعة لهم بين رجال الأعمال الكبار وأباطرة الإعلام من صحف وقنوات تليفزيونية وصحفيين وكتاب طامعين في جزء من كعكعة السلطة والنفوذ وأحزاب ضعيفة بقيادات فاسدة تملك الأجهزة ملفات كافية للزج بهم إلى السجون فيشترون ولاءهم مقابل تركهم وفسادهم ، وقضاة فاسدون يعادون الحريات ولديهم مواقف إيديولوجية عنيفة تجاه التيارات المحافظة فكانوا يخدمون مخططات العسكر ويشكلون مظلة قضائية تبطش بالمعارضة السياسية وتزج بقياداتها في السجون أو إلى أعواد المشانق ، بحيث يبدو وكأن هذا البطش هو حكم العدالة والقضاء وليس توجيهات العسكر . أردوغان بصبر ودأب ونفس طويل وذكاء سياسي مبهر ، نجح في أن يفكك هذه المنظومة تدريجيا ، استغرق الأمر اثني عشر عاما تقريبا حتى نجح في وضع المؤسسة العسكرية تحت ولاية الشعب التركي من خلال مؤسساته المدنية المنتخبة ، بل وحول العديد من الجنرالات الكبار للمحاكمة على خلفية تآمرهم على الديمقراطية وقيامهم بالانقلاب على القادة المنتخبين ، وآخرون حولهم للمحاكمة لتجسسهم على المعارضين ، وكانت المفارقة اكتشافه أن مكتبه كرئيس للوزراء خاضع للتنصت من قبل الاستخبارات ، بعد عشر سنوات من وجوده في السلطة ! ، وبقدر ما نجح أردوغان في السيطرة على جموح الجنرالات وطموحهم وامبراطوريتهم الاقتصادية وتفكيك دولتهم العميقة بقدر ما نجح في محاصرة الفساد ، وتفكيك شبكاته ، وبقدر ما حقق طفرات اقتصادية وتنموية مذهلة شهد بها العالم كله ، وجعلت اقتصاد تركيا بين العشرين الأعظم على مستوى العالم ، سابقا بذلك دول أوربية كبيرة ، وبعد أن كان ترتيب بلاده المائة تقريبا ، كما حقق طفرات علمية وتقنية هائلة ، وباختصار ، نجح في تحقيق ثورة إصلاحية شاملة في كل المجالات . كل هذا نجح فيه أردوغان وهو لا يخفي شخصيته المتدينة هو وزوجته وأولاده ، ولا التزامه الديني الواضح ، ولا إيمانه بالمنظور الإسلامي كأحد أبناء الأحزاب السياسية الإسلامية السابقة ، هو وكثير من قيادات حزبه كذلك ، ولكنه نجح في تفجير روح حداثية مبدعة وخلاقة في بلاده ، تزاوجت مع هذا الالتزام الديني , واحترمت التنوع الفكري والديني والمذهبي ، واحترمت التعددية السياسية ، واحترمت البناء المؤسسي للدولة الحديثة والفصل بين السلطات وسيادة القانون وسلطة الشعب على قرارات الدولة والحفاظ على الحريات العامة ، ولم يكن هذا كله محصورا في الإطار النظري أو التنظيري كما درج إسلاميون كثر ، وإنما كان على مستوى عملي تطبيقي ، رآه الناس وعاشوه ولمسوه بأيديهم ، وجنى مواطنوه ثماره . لهذا يخاف كثير من الديكتاتوريات العربية من نموذج أردوغان ، ولهذا يفزع كثير من نظم القمع المبنية على شبكات الفساد المماثلة من تجربة أردوغان ، لأنها تظل شمس النهار التي تكشف للناس ظلام ليل القمع والفساد والاستبداد .