هناك حيرة كبيرة في التعامل مع ظاهرة "داعش" التي تجتاح العراقوسوريا الآن ، ومحاولات متعددة لسبب ظهورها الكبير والمفاجئ ، وأسباب انتصاراتها على أرض الواقع ، وتحليلات عن الجهات التي صنعت داعش وفتحت لها الطريق ، وتحليلات عن الأجهزة التي "تلعب" مع داعش وتوجهها لأهداف محددة سلفا أو تحفر لها القنوات التي تندفع فيها دماء شبابها تلقائيا ، ثم جاء إعلان داعش للخلافة الإسلامية وتنصيب زعيمها خليفة للأمة يلزم مليار مسلم في مشارق الأرض ومغاربها ببيعته والسمع والطاعة له ، لكي يضفي طابعا فولكوريا وعبثيا على المشهد كله ، وقصة الخلافة هي جزء من ذاكرة جمعية للشباب الإسلامي الجديد تتصل بظلال تلك الذكرى الجميلة لعصور خلت صنعت الحضارة وأسست لدولة القانون والعدالة والرفاه ، رغم عدم خلوها من أخطاء ، إلا أن زخم الحضارة التي أبهرت العالم وقتها وقوة الدولة واتساعها وقوة روح الدين في عموم الناس واتساع نطاق الانتصارات التاريخية والفتوحات ، صنعت هذه الهيبة والبهاء لذكرى الخلافة ، ومع فقر الفكر الإسلامي الحديث في تطوير نظرياته السياسية لإدارة دولة عصرية من منظور مرجعية إسلامية بفعل تهميش التيار الإسلامي وموت السياسة بشكل عام في معظم بلاد المسلمين في ظل نظم قمعية ودموية ، فقد حدث فراغ في الوعي الإسلامي تجاه هذه المسألة ، وافتقر الجيل الجديد من المسلمين إلى وجود رؤية حديثة وواقعية تمثل بديلا عصريا لفكرة الخلافة ، غير أن العقل الاجتهادي الإسلامي معذور بسبب تكاسله عن إنجاز هذه المهمة ، إذ أنها تبدو في القرن الأخير كأنها عمل عبثي أو وهمي ، فلماذا تبذل كل هذا الجهد وأنت تعلم أنه لا توجد سياسة من بابه ، وإنما عسكر يستولون على السلطة بقوة السلاح ثم يمثلون بعض المشاهد الانتخابية ويحكمون قبضتهم على البلاد بمؤسسات أمنية مروعة ويتم اعتماد شرعيتهم من قبل رعاة غربيين ، ولماذا تهتم بوعي جيل جديد وأنت ترى معظمه إما في السجون أو في المنافي أو مهمشون يمشون بجوار الحائط أو حتى بداخل الحائط . وأذكر أن بعضا من شباب حزب التحرير الإسلامي وهو أكثر الفصائل حديثا عن الخلافة زارني قبل سنوات يحدثني عن الخلافة الإسلامية وأنها تحل كل مشكلات الأمة ، وأفاضوا في الحديث وأنا مضطر للصبر على سماع رؤى في غاية السطحية والسذاجة ، وكانوا أربعة ، فلما فرغوا طرحت عليهم سؤالا افتراضيا ، وقلت لهم : هبوا أني منحتكم الآن مصر وشعبها ودولتها لتقيموا الخلافة فيها ، وأنتم الآن مسؤولون عن ثمانين مليون إنسان بطعامه وشرابه وصحته وتعليمه وحله وترحاله وزراعاته وصناعاته وأمنه ووظائفه ... إلى آخره ، فما هي الخطوات التي تتخذونها لإدارة هذه الدولة وما هي المؤسسات وكيف تديرون الدولة وكيف يكون شكل هذه الخلافة التي ستحكمون بها مصر ، وفي النهاية أجاب كل واحد منهم إجابة مختلفة عن إجابة الآخر ، ثم أصبح النقاش فيما بينهم وتحولت أنا إلى مستمع ومشاهد لهذا الشجار الفكري ، وأذكر أيضا أن الشباب المجاهدين في الصومال عندما كانت لهم صولة وجولة في البلاد ويسيطرون تقريبا على نصف العاصمة ذاتها كانوا يطلقون تصريحات عن أن هدفهم الأسمى هو إقامة دولة الخلافة ، في الوقت الذي كان العالم يتنادى لإنقاذ نصف مليون صومالي من الموت جوعا بفعل التصحر أو الفقر أو هلاكا في الصراع العبثي بين زعماء الميليشيات. الحقيقة المرة ، والتي تهرب منها نظم الحكم الحالية في بلاد العرب ، ويهرب منها المجتمع الدولي "المنافق" ، هي أن داعش وأخواتها هي حصاد سياسات إقصائية وقمعية وديكتاتورية هيمنت على المشرق العربي بدعم من القوى الغربية ، التي تعاملت وفق مبدأ المقايضة بين تحقيق مصالحها وتمكين تلك النظم من شعوبها ، النظم تحمي مصالح الغرب والغرب يغض الطرف عن ديكتاتوريتها ووحشيتها أحيانا ويدعمها أيضا بالسلاح والخبراء وحتى بوسائل التعذيب ويصدق على شرعيتها في المجتمع الدولي ، داعش وأخواتها هي جنين طبيعي ولد من رحم مناخ تاريخي جعل "السيف" هو صانع الشرعية ، ولو أن زعيم داعش امتلك حدا أدنى من الحصافة وأرسل رسله أو رسائله إلى واشنطن وعواصم غربية بأنه سيضمن أمن إسرائيل ويضمن تدفق النفط العراقي والسوري إلى موانئ أوربا وأمريكا لحصل تدريجيا على الرضى الأمريكي والعالمي ، ولرأينا السفير الأمريكي يقدم أوراق اعتماده في قصر "أمير المؤمنين" سفيرا لبلاده في دولة داعش ، ولرأينا أعلام داعش ترفرف فوق مبنى الأممالمتحدة ، وفريق داعش لكرة القدم ممثلا للعرب في كأس العالم المقبل ، فبأي شيء يختلف زعيم داعش عن بشار الأسد وأبيه ، بل إن ما ذبحه البغدادي الدموي من البشر لا يصل إلى ربع ما ذبحه بشار وأبوه من الشعب السوري في الثمانينات أو في الألفية الجديدة ، وبماذا يختلف البغدادي عن نوري المالكي ، الذي أطلق ميليشياته تقتل المواطنين السنة على الهوية الطائفية وحرق البشر وهم أحياء والتطهير الطائفي لبغداد والجنوب من السنة ونهب هو وعصاباته ثروات العراق في الوقت الذي تعيش فيه بلاده حالا أسوأ من بلاد وسط أفريقية الفقيرة ، هل معضلة زعيم داعش أنه يحكم الناس بالسلاح والرعب والبطش ، وهل كان القذافي وبن علي ومبارك وعلي عبد الله صالح وبشار يحكمون بغير السلاح والبطش وأجهزة الرعب . داعش كانت تنظيما صغيرا هامشيا في العراق ، انطمر وازداد هامشية بعد تفجر الربيع العربي وحلم الشعوب بالديمقراطية والحرية والكرامة والثورات السلمية تتمدد وتصنع عالما جديدا ، ثم انكسر ذلك الربيع السلمي بفوهات السلاح والدبابات والطائرات ، فبرزت داعش وتمددت وتغذت على احتقانات الشعوب بعد انكسار ربيع العرب الذي بشر بالديمقراطية والعدالة والمساواة والشراكة السياسية ودولة القانون ، فعندما غرب ربيع العرب أشرقت دولة داعش ، عندما نافق الأمريكيون في سوريا وخدعوا الشعب السوري بمعسول الكلام بينما هم يحاصرون ثورته ويمنعون عنها السلاح حتى لا تحقق نصرها على "الطاغية" ولإطالة أمد المحنة أطول فترة لكي تتحول إلى بؤرة استنزاف لإيران وحزب الله والمجموعات الإسلامية المتشددة ، أفلتت بعض شظايا المعادلة الإجرامية وقررت أن يكون لها حساباتها الخاصة . داعش أبو بكر البغدادي ليست نشازا في بلاد العرب ، كانت هناك دواعش أخرى تحكم في القاهرة وتونس وطرابلس وصنعاء وبغداد ودمشق ، لكنها تميزت عن داعش البغدادي بأنها كانت تمتلك "ميك أب" وأدوات تجميل لم تتوفر حتى الآن لدى البغدادي ، هذا فقط هو الفرق .