لم يعلن من قبل عن زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل السعودية لمصر حتى نشرت "رويترز" مساء اليوم الخبر في نبأ عاجل ومختصر لها ، وبدون أي تفاصيل ، وما زال تأكيد الزيارة حتى كتابة هذه السطور لم يتحدد بشكل نهائي حتى أن السفير السعودي بالقاهرة قال أنه لا علم لديه ، ومنذ إعلان فوز السيسي برئاسة الجمهورية حيث أرسلت له القيادة السعودية برقية تهنئة مطولة بصيغة احتفالية تضمنت دعوة لسرعة علاج الانقسام في مصر ودعوة لتشكيل لجنة مانحين ، لم يجر أي شيء ذو بال ، ولا يوجد أي طارئ يستدعي زيارة عاجلة ومفاجئة بهذا الشكل وفي ذلك التوقيت ، خاصة عندما نضم إليها المعلومة التي لا جديد فيها عن الظروف الصحية للملك عبد الله والتي من الطبيعي أن تجعل انتقالاته للضرورة القصوى "والشديد القوي" كما يقول المصريون ، فما هي الضرورة القصوى والأحداث العاجلة التي طرأت وجعلت الملك يتغلب على متاعبه الصحية ويفكر أو يقرر زيارة القاهرة . بداهة ، وبدون فلسفة وتكلف ، فإن الحريق الخطير الذي اشتعل في العراق والذي جعل الإدارة الأمريكية نفسها تتفرغ بشكل كامل تقريبا له في سياساتها الخارجية ويعقد الرئيس الأمريكي يوميا لقاءات مكثفة مع قيادات الكونجرس وقيادات القيادة المشتركة لجيشه واتصالات لا تنقطع بقيادات عالمية وإقليمية ، وجعلت العالم الغربي يقف على قدم واحدة وهو يدرس هذه التطورات الخطيرة والحريق الكبير الذي شب فجأة في العراق واقترب من أبواب العاصمة بغداد ويهدد المنطقة بكاملها بشرره ونيرانه ، هذا الحدث هو الذي يشغل السعودية الآن بشكل أساس وعاجل وملح ، والمملكة هي المعنية قبل أي دولة أخرى بتطورات الشأن العراقي ، وهي الدولة التي ستتأثر بشكل مباشر بتطورات الأحداث في العراق ، سلبا أو إيجابا ، والصراع الإقليمي على العراق تتجاذبه قوتان أساسيتان في المنطقة ، السعودية وإيران ، والاستقطاب الطائفي رغم كل الكلام المنمق إعلاميا وديبلوماسيا لا تخطئه العين ، والمسألة العراقية عند إيران والسعودية تتعلق بالأمن القومي في صميمه ، بل تتعلق بالوجود نفسه ، وإذا أضفنا لذلك الصراع الخطير بين الدولتين في سوريا والذي تخوضه الدولتان كمعركة مصير ولا تتزحزح أي منهما عن مواقفها تجاهه خطوة واحدة ، وإذا أضفنا إلى ما سبق الاتهامات اليومية لرئيس الوزراء العراقي المتطرف نوري المالكي للسعودية بأنها وراء الأحداث الأخيرة في العراق وأنها ترعى الإرهاب بزعمه وأنها تهدد المنطقة واستقرارها والردود السعودية الحاسمة عليه ، والفتاوى الطائفية التي أصدرتها مرجعيات شيعية كبرى لمواجهة ثورات السنة في العراق ومنعهم من الوصول إلى العاصمة وتهديدات إيرانية علنية بدخول قواتها للعراق واجتياحه بدعوى حماية أضرحة آل البيت وهو ما يجعل الجيش الإيراني والحرس الثوري على حدود المملكة مباشرة ، إذا ضمننا كل ذلك فنحن أمام مفرق طرق تاريخي وتحديات غير مسبوقة منذ غزو صدام حسين للكويت ، بل ربما أخطر منها بكثير ، لأنها تتعلق بإعادة النظر في خريطة سايكس بيكو التاريخية جذريا . هل يمكن أن يتصور عاقل أن القيادة السعودية تترك هذه المخاطر والاتصالات المتعلقة بها والمتابعات المتوترة لأحداثها ، لكي تذهب إلى القاهرة لتهنئة السيسي على فوزه بالانتخابات التي نسيها المصريون أنفسهم الآن ، أو لكي تقول للرئيس الجديد نحن معك وندعمك ، تصور مثل هذا الكلام هو هزل في موضع الجد ، وقولا واحدا ، فإن الزيارة متعلقة بالحريق الخطير الذي أصبح على حدود المملكة والذي يمثل مفصلا تاريخيا ومصيريا لها ، والحقيقة أن مواقف عديدة صدرت من الرئيس المصري الجديد مثلت قلقا للمملكة ، لأنه بدا منها أنه يصطف مع خصومها في العراق ، خاصة بعد استقباله لنائب المالكي في القاهرة ليعلن له دعم بلاده لحكومته الطائفية في مواجهة الإرهاب ، في الوقت الذي أعلنت فيه السعودية بوضوح أن ما يحدث في العراق ثورة شعبية وليس إرهاب ، وأن وجود بعض التنظيمات الإرهابية في المشهد لا يعني أن الحدث إرهابي ، تماما كما حدث في سوريا ، ثورة شعبية يستغلها بعض التنظيمات الإرهابية ، وقد قامت السلطات المصرية الجديدة بحملة محاصرة للثورة العراقية وداعمة للمالكي عندما قررت فجأة وقف البث عن عدة قنوات سنية تدعم الثورة العراقية وتعارض المالكي على رأسها قناة "الرافدين" وهو ما أثار استياءا واسعا وتساؤلات عن الجهة التي طلبت من مصر ذلك ، وتفسير مصر لهذا الموقف خاصة وأن النايل سات تبث عشرات القنوات الشيعية المتطرفة الأخرى . السعودية قلقة من رؤية السيسي لما يحدث في العراقوسوريا ، والقيادة السعودية تريد أن تطمئن من الرئيس الجديد عن حقيقة موقفه مما يحدث وخططه وولاءاته ، بوضوح أكثر ، أنت معنا أم مع المالكي ، أنت معنا أم مع بشار ، وهذه الزيارة إذا تحققت غدا ستكون معنية بوضع النقاط على الحروف ، وعلى السيسي ، إن أراد أن يحافظ على دعم "الشقيق السعودي" لإنقاذ اقتصاده المهترئ أن ينفض يده من التحالف الإيراني ومشروعه الطائفي والتوسعي في المنطقة وتجلياته ، سواء في سوريا أو العراق أو لبنان ، وفي بدهيات السياسة لا توجد دولة تضع دعمها اللا محدود لدولة أخرى تدعم خصومها وتناصر المتآمرين على مصالحها وأمنها القومي .