مصر .. إلى أين؟. إنها مفارقة أن يظل هذا السؤال بمعناه الضبابي المثير للقلق قائماً حتى بعد ثورة 25 يناير وإسقاط النظام, هل سقط النظام فعلا؟. قبل 25 يناير كان مفهوما أن يردد كثيرون: مصر إلى أين, أو"مصر رايحة على فين"؟. فقد كانت الأوضاع شديدة الرمادية, لا أحد خارج منظومة الحكم الضيقة جدا يدري ماذا يحدث في مصر ولمصر وبمصر, هل مشروع التوريث قائم, ومتى ينفذ؟. هل الرئيس الأب يريد الخلود في الكرسي. ماذا تريد الهانم, هل يظل الزوج رئيساً, أم يكتفي ويبدأ الابن دورته في الحكم؟. على مستوى الشارع والناس البسطاء الذين يخوضون معركة لقمة العيش اليومية كانت الحياة لا تطاق بسبب الغلاء الطاحن والفساد الفاحش, القلوب وصلت الحناجر والعقول كادت تطير من الرؤوس. بعد الثورة ومع استمرار كشف جبال الفساد, لم يكن يتصور أكثر المصريين تشاؤما أن الفساد كان قد وصل إلى هذا المستوى من الفحش والعهر. أناس يموتون من تخمة الفساد, وآخرون يموتون من الجوع . الفساد عم البر والبحر والجو في مصر قبل الثورة , أما بعدها فلا أدري هل سيتم تجفيف أو ردم بركة الفساد العفنة, أم أن حكومة عصام شرف والمجلس العسكري لن يتمكنا من خوض المعركة حتى النهاية لاقتلاع دولة عفية لها جذور راسخة, فذلك يحتاج جهودا خرافية, المهمة ثقيلة والأيادي التي تعودت على السرقة والنهب يصعب أن تتطهر بسهولة. أما المعيشة فلم تتغير للأحسن, فالناس مازالوا يئنون وشكواهم تتصاعد من الأسعار الفلكية وضيق ذات اليد, وهم ينتظرون عسل ولبن الثورة, لكنه لم يصل بعد. المشاكل المعتادة مازالت قائمة, بل تفاقمت, فالمرتبات والدخول عاجزة عن تلبية المطالب الضرورية, وهذا يزيد الضجر والتبرم, ويجعل مبرر الفساد الأصغر مازال قائما بعكس الفساد الأكبر الذي قد يكون توقف, أو أخذ هدنة, أو استراحة محارب شيطاني, أو انزوى بعيدا عن الأضواء. لماذا نطرح السؤال المزعج: مصر إلى أين؟. لأنه بعد الثورة ازدادت الأوضاع سوءاً في ثلاثة ملفات لها دورمفصلي في نجاح الثورة أو تعرضها لانتكاسة لا قدر الله وهى: 1- فتنة طائفية تنتشر وتشتعل, وقد تجر البلد إلى خراب واسع وأحقاد سوداء وتعطيل مسيرة الثورة وإصلاحاتها. 2- فوضى أمنية خطيرة, قد تجعل الكثير من المصريين يقولون إن الأمن والاستقرار في ظل ديكتاتور أفضل من الحياة في ظل حرية منفلتة بلا أمن, وهو مايقوله العراقيون منذ سنوات, وكذلك الصوماليون, وكل شعب دخل الفوضى ولم يخرج منها أو خرج لكن بخسائر فادحة. 3 - الغلاء الذي يتزايد والحالة التي أصبحت ضنكا, والحكومة تسحب من رصيدها الدولاري "8 مليارات في مائة يوم" لتدفع المرتبات وتستورد الطعام. كيف كان بحر الفساد هائجاً ومائجاًً في عهد مبارك, بينما كان رصيد الدولارات يتزايد, وكانت الحياة تسير؟. صحيح الغلاء كان موجودا لكنه تغول بعد الثورة، نعم للحرية, ونعم للخبز معها. هذه أخطر ثلاثة ملفات أمام النظام الجديد المؤقت في مصر, الذي لا نفهم ماذا يفعل, وكيف يفكر, وعلى أي طريق يسير, رغم أنه يردد صباح مساء أن هذه القضايا هي أولوياته وشغله الشاغل ؟. لكن لاشيء يتحسن بل الأمر يزداد سوء, وهنا يطل الخطر على الثورة وعلى المستقبل الذي نحلم به لمصر حرة ديمقراطية, من عيون الكتلة الأكبر من شعب مصر, كتلة البسطاء والناس العاديين الذين يريدون العيش. هذه الكتلة الضخمة الصامتة قد لا تنشغل كثيرا بمسالة الديمقراطية وتداول السلطة ومن يحكم ومن يعارض, لكن اهتمامها الأساسي هو الستر, أي لقمة العيش الكريمة. هم تفاعلوا مع الثورة لأنهم تعشموا منها خيرا في تحسين أوضاعهم , وإذا شعروا اليوم أن حياتهم ساءت عما كانت عليه في عهد مبارك, بل أضيفت على كواهلهم أعباء جديدة كانفلات الأمن والفتن, فإنهم قد ينقلبون على التغيير الذي لم يفدهم, أوعلى الأقل يخاصمونه. اقتناع المصريين بالقيمة الثمينة للحرية التي حصلوا عليها وضرورة العض عليها بالنواجذ لابد أن يكون مقرونا بحياة أفضل وأكثر أمانا. عندما يؤمن المصريون بأن الثورة كانت حبل النجاة من الطغيان والفساد فإنهم سيصبحون حراس الثورة وسيقاومون ويقتلعون أي نبت ديكتاتوري جديد قبل أن ينمو ويتجذر, لكن ذلك مرتبط بالا يزدادوا جوعاً وجهادا في معركة لقمة العيش. مصر إلى أين؟. لا أدري, لكن الذي أراه الآن أن صراعا بين جماعات وتيارات قديمة وجديدة كثيرة ربما لا وجود شعبي حقيق لأغلبها كل هدفها الحصول على نصيب من كعكة مصر بعد الثورة، رغم أن البقرة الحلوب جف ضرعها وتحتاج أن يجري أكسير الحياة من جديد في عروقها لتدر حليبها وخيرها. أما الثوار الحقيقيون وهم: * الشهداء. * الشباب الذين تجاسروا وذهبوا لميدان التحرير يوم 25 يناير. * كل من انضم إلى الشباب بعد 25 يناير وبقوا صامدين حتى يوم خلع مبارك في 11 فبراير. هؤلاء يتم تهميشهم وإقصائهم ودفعهم إلى خارج الصورة ليحتلها منافقون ودجالون جدد. أصحاب الثورة يسرقون الآن في وضح النهار, فلا افهم مثلا سر وجود الدكتور يحيى الجمل في منصب نائب رئيس الوزراء , وهو خلال الثورة كان في قصره, ولما خرج منه كان لينضم مع آخرين فيما يسمى بلجان الحكماء لإنقاذ النظام من ورطته الكبرى تحت مسمى الوصول لحل للأزمة, وهكذا آخرون يحصلون على مواقع لا يستحقونها وكأن عقل النظام السابق مازال فاعلاً في العهد المفترض انه جديد. يحيى الجمل.. أم وائل غنيم, أم الدكتور محمود حلمي, وهو جراح كبير فتح الله عليه علما ومالا, ولم يكن مهتماً بالسياسة ولا حتى يقرأ الصحف أو يشاهد التليفزيون فهو مشغول فقط بتخفيف ألآم المرضى, لكن أولاده سحبوه للميدان فدخله مع زوجته الطبيبة أيضا, وبعدها قرر عدم الخروج منه إلا بعد إسقاط النظام ورحيل مبارك. المجلس العسكري حمى الثورة ودافع عنها ومصر أمانة بين يديه لكن ربما باستثناء د.عصام شرف ونفر آخر قليل ممن يديرون دولاب العمل التنفيذي, فانهم لاعلاقة لهم بالثورة , والمدهش أن بعض من يتصدرون المشهد, او يتم تسكينهم في مواقع يلعبون على الحبل, إذا بقى النظام فهم أبناؤه, وإذا سقط فهم من طليعة الثوار. قلبي على مصر التي لا أدري إلى أين تذهب, فأهلها لن يأكلوا حرية. لا تجعلوا الحنين يأخذ المصريين إلى أيام الديكتاتور, فيصنعوا ديكتاتوراً جديداً.