ليس من فارغٍ أن يتنزل القرآن على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآياته تقرع الأذان {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولى الألباب}، فلا تستقيم الحياة بدون قصاص ممن اقترفوا الجرائم في حق المجتمع واستباحوا دمائه وأعراضه؛ فإنّ تطبيق الحدود والقصاص صون للدماء وحماية للمجتمع وبناء حياة كريمة للشعوب. ولأنّ الشعب المصري عاطفي بطبعه، فإنّك تعجب من قلوب المصريين الرقيقة، والتي تتعاطف مع مبارك وتهمس بالعفو عن محاكمته أو القصاص منه.. وقد رأينا بضعة مئات يتجمعون أمام مبنى ماسبيرو مطالبين بعدم محاكمة مبارك، بل يطالبون بتكريم الرئيس المخلوع!! وسواء كان هؤلاء من فلول الحزب الحاكم أو غير ذلك، فإنّنا نُحسن الظن بهم، ونعذرهم لجلهم، ونتعجب مما يقولون أنّ الرئيس المخلوع كان أبًا للمصريين فهل يحاكم الرجل أباه؟! وأنّه خدم مصر 30 عامًا.. كلام عاطفي مجردٌ من الحقائق، وقلب لموازين العدالة، وهدم لمصر الجديدة التي نرجوها. حيث أنّ أول لبنة في طريق التحضر والتقدم وبناء مجتمع ديمقراطي هو ترسيخ سيادة القانون، بأن يكون الجميع أمام القانون سواء، لا فرق بين وزير ولا خفير، ولا فقير ولا غني.. والنبي الكريم يقول في ترسيخ هذا المبدأ: [ويم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها]. وهذه هي العدالة الّتي ننشدها والتي أقرتها جميع الأديان والمواثيق الدولية، فعدم تطبيق القانون والعدالة سبب رئيسي في فساد الشعوب وانهيار الأمم، فالله لعن الأم السابقة لأنهم [كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف فيهم تركوه]. إنّ البداية الصحيحة لمصر الجديدة تتمثل في ضرورة الخروج السريع من نظام الرئيس السابق مبارك، وذلك من خلال محاكمة الرئيس المخلوع تحت مظلة الثورة، وكذلك محاكمة عائلته وأفراد أسرته ومعاونيه وزبانيته ووزرائه. مع تشكيل هيئة قضائية مستقلة لفتح كل الملفات، والتحقيق في كل الأحداث التي تمت خلال ثلاثين عامًا مضت، بل نطالب من أجل بناء مصر الجديدة تفعيل قانون مساءلة الوزراء المُعطل منذ إلغاء الوحدة بين مصر وسوريا. نعم العدالة وسيادة القانون هي العمود الفقري لبناء مصر الجديدة، العدالة بعد ثورة ضحى من أجلها أبناء هذا الوطن بدمائهم وأرواحهم، حتى وإنْ قضت محاكمة الرئيس المخلوع مبارك إلى الحكم بإعدامه أو سجنه عن الجرائم التي ارتكبها.. فمبارك جنى على نفسه ولم يجن أحدٌ عليه، وهو مصير ما قدمت واقترفت يداه.. وهو الذي أوصل نفسه إلى حبل المشنقة. مبارك أيها السادة الأجلاء المتنادين بالعفو عنه وتكريمه؛ دمر وطنًا وقتل شعبًا وخنق أمة، وجعل من مصر بلدًا متوطنًا للأمراض والأوبئة، كم من آلاف المصريين الذين ماتوا من المواد المسرطنة، وكم من الفقراء الذين ماتوا من الفشل الكلوي الناجم عن تلوث المياه. وكم الذين ماتوا من جراء الإهمال الجسيم: في عبارات الموت "سالم اكسبريس"، وممدوح إسماعيل، والأجساد البريئة التي حرقت وتفحمت في قطار الصعيد بالعياط.. وكم من الأبرياء الذين ماتوا جراء التعذيب وسلخانات أمن الدولة.. جرائم مبارك على مدي 30 عامًا لا تُعد ولا تُحصى، حيث جعل من البلد عزبة، وأطلق يد أبنائه وعائلته للعبث بمقدرات الشعب، حتى زوجته السيدة سوزان مبارك التي كان من نصيبها الاستيلاء على حسابات مكتبة الإسكندرية والتي تُقدر ب 145 مليون جنيه!! إنّ محاكمة مبارك هي الحل، بل نراها ضرورية أكثر من أي شيء آخر من أجل المستقبل، ويجب ألا تحكمنا نزعات التشفي في رئيس مخلوع، فاللهم لا شماتة، ولا تتحكم فينا نوازع الانتقام من الماضي، لكننا نراها ضرورية لبناء المستقبل، لأنّها ستكون أكبر رادع لكل رئيس تسول له نفسه ظلم شعبه أو مصادرة حريته، وقتل كرامته، أو انتهاك حقوقه، محاكمة مبارك والقصاص منه أكبر رادع لكل من يجلس على كراسي السلطة من بعده. بل إنّ محاكمة مبارك والقصاص منه ستكون عبرة وعظة لكل مسئول تسول له نفسه نهب خيرات بلاده والعبث بمقدرات أوطانه أو خيانة شعبه، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (يونس: 92).