يحكى أن ديجول, حينما جاء إلى الحكم فى فرنسا، بدأ فى إجراء مفاوضات الاستقلال مع جبهة التحرير الجزائرية، وحينما لامه المقربون إليه متسائلين: كيف يفرط فى الجزائر بهذه السهولة؟ أجاب على الفور: علينا أن نفهم الزمن الذى نعيش فيه، لم تعد قوة الأمم تقاس بما تملكه من مستعمرات، ولكن بمدى تقدم البحث العلمى، وهذه هى معركة فرنسا المقبلة.. هكذا كان يفكر الجنرال العسكرى الفرنسى الذى أدرك مبكرا أن البحث العلمى اصبح يحدد، بل ويقيس عنصر التقدم والقوة بين دول العالم. هذه قصة واقعية وتاريخية تكشف وتؤكد أن البحث العلمي أصبح ضرورة تفرضها المشاكل التي يعانيها المجتمع المصري خاصة فى ظل أن الإنفاق الحكومي على البحث العلمي لا يتجاوز 0.4 في المئة من الناتج القومي والكارثة أن معظمه يذهب أجوراً للأيدي العاملة، وليس للبحوث بحد ذاتها. هذه القضية المهمة هى إحدى القضايا الرئيسية إن لم تكن الاولى التى يجب أن تنال الإهتمام الأكبر من جانب رئيس مصر القادم لأنها بالنسبة لمستقبل مصر تمثل مسألة حياة أو موت لأنه بدون تطوير منظومة البحث العلمى فلن يكون هناك مستقبل لمصر فى أى مجال . فى هذا السياق نشير إلى أن فى مصر نحو 40مركزا للبحث العلمى ، وهى إحدى المشكلات الرئيسية فى الإدارة، والمطلوب أن تنضم تلك المراكز تحت مظلة واحدة وهى مظلة وزارة البحث العلمى . ونظراً لإهتمامى بهذه القضية ودورها المهم فى الحاضر والمستقبل فقد سألت عدداً من الخبراء والمتخصصين حول المعوقات التى تحول دون تحقيق مصر انجازات ملموسة تليق بها وبمكانتها التاريخية .. فأكدوا لى أن البحث العلمى فى مصر يواجه 4 أزمات هى الإدارة والتمويل والعلماء والتسويق، فلابد من إدارة جديدة ونظرة جديدة للتمويل وتشجيع وتحفيز القطاع الخاص لتمويل البحث العلمى مثلما يحدث فى الخارج، فشركة مرسيدس تقوم بتمويل البحث العلمى فى جامعة شتوتجارت الألمانية مثلا. وهنا أشير إلى أننا نمتلك 30 ألف باحث في مراكز بحثية كبيرة، وهم في حاجة إلى دعم كبير لإكمال وتطوير أفكارهم . وقد سبق لى أن تعرفت عن قرب على العشرات من العلماء فى المركز القومى للبحوث ووجدت أن لديهم إختراعات وأفكار لو تم تنفيذ نصفها فقط لتغيرت مصر إلى الأفضل فى العديد من المجالات الطبية والصحية والإقتصادية وغيرها .. ولكن المشكلة الرئيسية التى تواجه هؤلاء العلماء الكبار وغيرهم هى نقص التمويل .. فهم لا يجدون أى فرصة لتطبيق تلك الإختراعات على أرض الواقع . ومن المؤسف الإشارة إلى أن الدراسات أكدت أن الوضع الراهن في مصر يشهد انخفاضا واضحا في معدل الإنفاق علي البحث العلمي, وبصفة عامة أقل من المعدل العالمي, حيث تعتبر معايير المنظمات الدولية مثل البنك الدولي, ومنظمة الأممالمتحدة, أن نسبة الإنفاق المثالي أكثر من2%, ومن2% إلي1.6% تكون جيدة, ومن1.6% إلي1% تكون حرجة, ودون ذلك ضعيفة جدا . وقد أعد الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة بحثا كشف فيه عن تدهور منظومة البحث العلمي في مصر, وأرجع ذلك إلي تدهور العملية التعليمية في المدارس, والبنية التحتية لها. وأشار البحث إلي أن الجامعات تضم قاعات للدروس مكتظة بمئات أو ألاف من الطلاب, سواء تعلق الأمر بالتعليم في المدارس أو الجامعات, فإن المنهج المتبع هو منهج التلقى المباشر دون تنمية قدرات التحليل أو النقد في المناهج التعليمية, ولا ترقي للمستوي المطلوب لتخريج كوادر بشرية قادرة علي التنافس علي المستوي العالمي . وفى النهاية أطالب الحكومة بأن تطبق النص الذى تضمنه دستور مصر الجديد الذى أعدته لجنة الخمسين والذى تضمن تخصيص نسبة 1% من إجمالى الدخل القومى للبحث العلمى ووضع خطط حالية ومستقبلية للنهوض بالبحث العلمى فى مختلف المجالات لأنه لن يكون هناك حاضر ولا مستقبل لأجيالنا الحالية والقادمة فى مصر سوى بالإهتمام بالبحث العلمى وتوفير الإمكانيات اللازمة لتطويره وهو ما يستلزم بالطبع إجراء تغييرات جوهرية فى طريقة وأسلوب ومضمون المناهج الدراسية بمختلف المراحل التعليمية .