أصيبت بريطانيا التي تعلن تبنيها للقيم والمفاهيم العلمانية بالصدمة نهاية الأسبوع الماضي عندما قال رئيس الوزراء توني بلير: إن الرب هو الذي سيحكم على قراره الخاص بمشاركة حليفه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خوض حرب العراق. وكان الرئيس الأمريكي بوش قد لجأ إلى نفس الطريقة مرارًا في السابق؛ حيث دأب على الاستشهاد بإرادة الرب في تبرير حربه الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد "الإرهاب"، واعتاد أن يصف هذه الحرب بأنها حملة مقدسة مباركة من قبل الرب ومتوافقة مع التعاليم الدينية في مواجهة من يصفهم ب"الأشخاص الأشرار". وعلى الجانب المقابل يؤكد معارضو شن هذه الحروب وبشكل متوقع أنهم يدافعون عن المناهج العلمانية التقدمية غير الملوثة ب"الأصولية الدينية" وحالة الهوس الديني المستمرة. لكن ولسوء حظ هؤلاء العلمانيين التحرريين فإن خلفيات كل من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني الدينية والتي بدءا يعتمدان عليها بصورة كلية في تبرير قراراتهما السياسية المصيرية التي تترك بصمتها على مستقبل العالم، تستند هذه الخلفيات الدينية لبوش وبلير ليس فقط على إرث ديني مسيحي أكيد ولكن على منبع كبير يتمثل في تاريخ الحداثة الغربية ذاتها، والأكثر أهمية أن هذه الخلفيات الدينية تجد صدى لها في داخل المنظومة العلمانية التحررية الحديثة نفسها. ودائمًا ما كانت "الأصوليّة الدينية" تستغل في تبرير العديد من العقائد السياسية المتطرفة التي تتبناها قوى معينة أو دول أو أفراد، ومن ثم فإن "الأصولية الدينية" أصبحت هي التي تغذي طرفي الحرب التي تقودها أمريكا حاليًا ضد "الإرهاب"، حيث يؤمن طرفا الصراع بالأفكار الدينية المتشددة. ولقد أطلق المحافظون الجدد ومعاونوهم حملة تقوم على توجيه ضربات استباقية أحادية الجانب تستند في الأساس إلى الأفكار الدينية وحتمية خوض الحروب المقدسة باسم صراع الخير ضد الشر، وفي هذه الحروب يُقتل الناس ويسجنون ويعذبون باسم الحرب الدينية. وعلى الجانب المقابل تسعى جماعات مثل تنظيم القاعدة لتوسيع نطاق الخلافة الإمبراطورية السابقة، وينشغل قادة القاعدة وأنصارهم من السياسيين بالحديث عن معانٍ مرادفة للحرب المقدسة لدى المحافظين الجدد لكنها تتركز على فكرة الجهاد، ومن أجل تحقيق أهدافهم طوروا مفهومًا جديدًا للجهاد يقوم على التخلي عن أغلب المعايير والضوابط التي عرفها التاريخ الإسلامي في شن الحروب، ووسيلتهم الأساسية في ذلك هي إيقاع أكبر قدر ممكن من القتلى المدنيين من خلال تنفيذ الهجمات "الانتحارية" التي تنفذها عناصرهم. وبالنسبة لبعض المعتقدات الدينية يكون من النادر أن تستولي الفكرة العلمانية بشكل تام على أتباع تلك المعتقدات، ولم يحدث أن تغلغلت الفكرة العلمانية في صلب المجتمعات التي تقوم على معتقدات مثل هذه إلا من خلال ملابسات معينة تستدعي مراجعة السياق التاريخي والبعد المعاصر، وفي العموم يبدأ التشوه التاريخي للمجتمعات التي تؤمن بمثل هذه المعتقدات منذ مرحلة إعادة بلورة الأهداف التي تقوم عليها الدولة وتبني مبدأ القومية. وتتسم الديانتان اليهودية والإسلام بأنهما من الأديان التي ارتبطت في أصلها بإقامة الدول والممالك والحرص على الاحتفاظ بالسلطان السياسي انطلاقًا من المعتقد الديني، وهذا الأمر تواتر في تاريخ اليهودية من خلال اتصاف الأنبياء دائمًا بأنهم ملوك، وتقوم فكرة اليهودية على النزوع المستمر نحو الاستقامة الحقيقية غير المتأثرة بفساد القوة والجشع. وأما الإسلام فإن تاريخه كله يؤكد على أن أئمة الدين والعلماء كان لهم التأثير الأخطر والأقوى في توجيه مسار الدولة ورسم الحدود السياسية التي يتحرك من خلالها الخلفاء، بحيث يتم توجيه العملية السياسية دائمًا في اتجاه الحفاظ على الدولة الإسلامية. وإنه لأمر كارثي أن تفقد هاتان العقيدتان الدينيتان إرثهما الطويل المدى وتنسحبان إلى بساط العلمانية التي تسيطر بلا أية حدود في الوقت الحالي. أما المسيحية فقد كانت أوفر حظًا في الحصول على بداية أفضل إلى حد ما، وذلك أنها ولمدة ثلاثة قرون من وجودها تفادت أن تكون أسيرة بمنطق الدولة الدينية، ومن ثم فقد تمكنت من تشكيل أتباعها ضمن منظومة لا تقف أمامها حواجز النوع والجنس والثقافة والجغرافيا، لكن هذه المرحلة انتهت بالطبع في عام 325 بعد الميلاد عندما قرر الإمبراطور الروماني قسطنطين أن المسيحية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، وانطلاقًا من أنه الالتزام والولاء السياسي يعتبران قيمتين رئيستين في الولايات الرومانية، فقد أصبح الدين طريقًا أساسيًا لضمان الالتزام الجماعي مع السلطة الرسمية. وتعرض هذا التراث التاريخي الطويل للخطر في مرحلة شديدة الحساسية من خلال ما عرف بالحروب الدينية المقدسة في القرن السادس عشر، عندما تنافس الأمراء الأوروبيون من أجل الحصول على القوة والسلطة، وهنا بدأت الأفكار عن الهوية الوطنية والقومية تنتشر بقوة بجانب البعد الديني في صياغة الحياة السياسية، وبناءً على ذلك فبالنظر إلى البعد التاريخي يمكن اعتبار أن القومية العلمانية والتمايز العنصري قوضا فكرة عالمية المعتقد الديني، وربطا معاني الإيمان بقوة كل دولة. ودافعت المنظومة التحرّريّة العلمانية المعاصرة عن فكرة علمنة الدين والسياسة على حد سواء، وتحت اسم التعددية وقبول الآخر عمل العلمانيون التحرريون على نفي الدين من التأثير في السياسة، وبناءً على إنكار تأثير الدين ودوره في الحياة والسياسة تشكلت مجتمعات يجمع بينها مبدأ الفرار من أية اعتقادات أخلاقية، وهو ما أدى إلى تشرذم المجتمعات ووقوعها فريسة لثقافة النسبية واللامطلقات. والمفارقة التي يجب الوقوف عندها والتركيز عليها هو أن أصحاب المنظومة العلمانية التحررية لم يجل بخاطرهم مطلقًا أن المجتمعات العلمانية التي نشأت ستكون هي نفسها مفرخ "الأصولية الدينية" المعاصرة؛ لأنه وبعد حصر الدين وعزله عن التأثير في حياة المجتمعات وسياسات الدول ومنعه من التغلغل في الأوساط المدنية بصورة تقضي دائمًا على التعصب وتتبنى الاعتدال، أطلّت "الأصولية الدينية" برأسها وبكل شراسة. واستنادًا إلى ما سبق يمكن إدراك الأبعاد وراء تصريح توني بلير في حوار تليفزيوني بدوافعه الدينية ومعتقداته المسيحية لتبرير غزو العراق، والمشكلة أنه عندما تظهر المفاهيم الدينية في ظل مناخ العلمانية التحررية فإنها تخلق قيمة مهمة؛ ألا وهي أن الصواب يكون دائمًا ما يعتقده كل شخص على حدة، أي أن كل فرد يمكنه أن يحدد الصواب والخطأ بناءً على معتقده الديني وحريته الشخصية، ويؤدي ذلك إلى أن تصبح القناعات والتصورات الشخصية حقائق دينية غير قابلة للجدل، فإن ارتبطت بأصحاب القرار السياسي فإنهم يسعون لإمضائها وإقرارها من خلال شن الحروب واستعراض القوة. وعليه فإنهما وبسبب قناعتهما المطلقة باستقامة معتقداتهما الذاتية أصبح بوش وبلير كلاهما فاقديْ البصر وغير قادريْن على رؤية آثار ما يفعلانه على أرض الواقع، وبحماسهما الديني يتابع بوش وبلير مساعيهما لجعل الهيمنة الغربية على العالم غير قابلة للنقض، ومن أجل تحقيق هذا الهدف تبنى بوش وبلير نظرية خاصة بهما تعتمد على الضرب في الثوابت الحقيقية الفعلية للدين في الداخل والخارج، والترويج لتوسع كبير في نشر الديمقراطية في كل أرجاء العالم، وهما يريدان أن يوجدا صورة جديدة للعالم تكون انعكاسًا لتصورهما الخاص عن الدين، والذي هو في حقيقته أبعد ما يكون عن المسيحية. المصدر : مفكرة الاسلام