أن ننشد إحداث نهضة علمية شاملة فذاك طموح مباح بل هو متعين علينا كمجتمع إنساني يتسم بالهدفية والرشد والعقلانية، غير أنه طموح يتجلجل في وجداننا وسيظل معلّقاً في فضاء فكرنا لا يبرح مكانه، ما لم تشده جاذبية الحقيقة فيقع على قاعدة صلبة تحتويه وتنمّيه، وأحسب أن من عرى الحقيقة التي يمكن أن نستنزل بها ذلك الطموح على قاعدة الفعل الإنساني الرشيد أن نتفق على أن النهضة العلمية الشاملة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد أن نصل كمجتمع إلى مستوى نصنع فيه مشروعنا الحضاري المنبثق من ثوابتنا والمتناغم مع أمزجتنا وأوضاعنا، ولقد سبق لنا استجلاب تجارب بعض الدول مع تكثيف التحليل حول أهم ملامح المشروع الحضاري الماليزي، غير أنه بقي أن نبرهن على النهضة العلمية التي حققها الماليزيون لم تكن سوى إحدى آثار تبني الماليزيين لمشروعهم الحضاري الوطني، إذن يتوجب علينا أن نورد الأدلة على وجود نهضة علمية في ماليزيا سواء في التعليم العام أو الجامعي، مع تلمس الرابط بينها وبين المشروع الحضاري، وهذا ما سنجهد لإبرازه في المحاور التالية. في عام 2002م طرح رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد رؤية حضارية ناضجة تمثلت في (رؤية ماليزيا 2020)، وناقشت تلك الرؤية تسعة من التحديات الكبيرة التي يتوجب على ماليزيا التغلب عليها إن هي رغبت في الاصطفاف بجانب الدول الصناعية الكبرى في القرن الحادي والعشرين، ولقد تمحور التحدي السادس حول تأسيس مجتمع علمي متقدم قادر على الإبداع واستشراف المستقبل، وليس مجتمعًا مستهلكًا للتقنية . (تربية المستقبل الماليزية، مكتب التربية العربي لدول الخليج ، استعراض مجلة المعرفة السعودية، العدد 132). ولقد تضمن المبدأ الرابع لمشروع (الإسلام الحضاري) الذي طرحه السيد عبدالله بدوي عام 2004م: التمكن والإلمام بالعلوم والمعرفة. وتتعين الإشارة إلى أن تلك الرؤى والمشاريع لا تمثل إلا الديباجة الفكرية للمشروع الحضاري الماليزي أي أنه قد سبقته جهود فكرية وسياسية ضخمة، فعملية (تصنيع) المشروع الحضاري الماليزي قد بدأت منذ وقت مبكر وليست مربوطةً بيوم الإعلان عن تلك الرؤية أو ذلك المشروع، وهذه قضية يجب التفطن لها جيداً لاسيما في عالمنا العربي الذي نحتفي فيه كثيراً بالوثائق والمناسبات! لقد كان من أبرز آثار المشروع الحضاري الماليزي اضطلاع وزارة التربية الماليزية بتطوير معارف التقنية الأساسية وقدرات الابتكار لدى الطلاب الماليزيين بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، فقامت بتصميم منهج دراسي خاص بمادة دراسية اختيارية تستهدف إكساب الطلاب المهارات التقنية الأساسية تحت مسمى المهارات الحية Living Skills مع توجيه تلك المهارات بحسب احتياجات سوق العمل ومراعاة التغيرات الديناميكية في مجال العلوم والتقنية والاتصالات. وينضاف إلى ذلك أن وزارة التربية الماليزية أقرت التوسع في تدريس مادة (المخترعات) والتي يتم تدريسها في أربع حصص أسبوعية بواقع 40 دقيقة للحصة الواحدة. ويتجسد الهدف من تدريس تلك المادة في المدارس القدرة على إنتاج العمالة الماهرة تقنيًا والقادرة على الإسهام الابتكاري في المجال الصناعي. ولقد روعي في تصميم منهج مادة الاختراعات الاعتماد على أسس التقنية وإكساب المهارات الخاصة في حل المشكلات والقدرة على ابتكار منتج يحمل الجدة والقيمة الاقتصادية. وتأسيساً على ذلك فقد صمم المنهج ضمن محاور خمسة هي : مشروعات الاختراعات الجديدة. التصميم باستخدام الحاسوب. التسويق. حقوق الملكية الفردية. توثيق الاختراعات. ومما يبرهن على تبني الماليزيين للاختراع على المستوى الوطني وبروح تخلق الدافعية الداخلية للإبداع والابتكار أن وزارة التربية الماليزية تقدم منحة أولية لكل مدرسة تقوم بتدريس مادة الاختراعات تبلغ 1.315 دولار عن كل طالب يتم تسجيله لدراسة مادة الاختراعات ابتداءً، وتتبعها منحة سنوية بمبلغ 10.5 دولار لكل طالب. ودليل آخر على أن الماليزيين تعدوا الشكلانية في تطبيق المنهج الإبداعي في التدريس أنهم يطالبون كل دارس لمادة الاختراعات أن يقدّم ابتكاره (منتجه الخاص)، مع وجوب التوثيق الدقيق لإجراءات مشروع الابتكار وخطواته، مع وجود مناقشات مستمرة للطلاب داخل الفصل مما يساعد على تنمية الروح المنهجية لدى الطلاب في مراحل مبكرة والنقد والتحليل (المرجع السابق). ومما يؤكد على جدية الماليزيين في تدريس مادة الاختراعات أنها تتضمن برنامجاً لربط الطلاب بالصناعة المحلية من خلال برامج التدريب التعاوني بين مركز تطوير المناهج وإدارات التعليم بالولاية. كما أنهم يستغلون المادة لإكساب الطلاب بعض المهارات المكمّلة كمهارات التوثيق وكتابة التقارير وإعداد العروض التحريرية والشفهية. ولتحقيق ذلك الغرض أعد مركز تطوير المناهج وإدارات التعليم المحلية مجموعة من الأدلة لتعليم الطلاب وتدريبهم على كيفية عرض تصوراتهم، وتدريبهم على الطرق المختلفة لتوليد الأفكار الجديدة وكيفية تخضيبها وإنضاجها مع اكتساب القدرة على الصياغة الدقيقة، كما تتضمن مهارات التخطيط والتنظيم والتقويم (المرجع السابق). ومما ترتب على تبني ماليزيا لمشروع حضاري في مجال التعليم ما صدر في عام 1996 م كقانون يقضي بتحويل المدارس في ماليزيا من المدارس العادية إلى المدارس الذكية Smart Schools ، والتي تتميز بعدة سمات منها (المرجع السابق): * أن تكون وثيقة الصلة بالاحتياجات الأساسية الحقيقية للطلاب والمعلمين. * أن يتاح لكل مستفيد أن يصل إليها وقت الحاجة. * انفتاحها وقابليتها للتطور والتعديل والتحسين المحتملة. * مرونتها وملاءمتها للقيام بالعديد من المهام. وبسبب ارتفاع تكاليف تحول المدرسة العادية إلى مدرسة ذكية فقد طالبت وزارة التربية الماليزية المدارس التي لم تظفر بميزانية كافية بالبحث عن مصادر تمويل ملائمة، حيث تطمح الوزارة إلى أن يكون لديها 10.000 مدرسة ذكية في التعليم الأساسي بحلول عام 2010م. ولهذا فقد حثت الوزارة تلك المدارس على ممارسة ذكية في مجال الإعلام والتسويق لذاتها من أجل توفير رأس المال اللازم للحصول على التطبيقات والبرامج، وهنا درس ماليزي مجاني في كيفية تفعيل القيادات في المدارس في تنشيط الشراكة مع مؤسسات المجتمع بإعطائهم من الحرية والثقة والصلاحيات ما يكفي لتحقيق ذلك المطلب المنشود المفقود. والملفت للانتباه أنه في نهاية عام 1999م كانت أكثر من 90% من المدارس الماليزية قد تحولت إلى مدارس ذكية تطبق المفاهيم التقنية في تعلمها وترتبط بالإنترنت من خلال شبكة الألياف البصرية (التي تمتاز بسرعة نقل الوسائط المتعددة)، وقد تحقق هذا الإنجاز الكبير على الرغم من تعرض الاقتصاد الماليزي لأزمة عام 1997م التي عصفت ب (النمور الأسيوية) كما يسمون في الغرب! ومؤشر آخر يؤكد على نجاح ماليزيا في تحقيق نهضة علمية كبرى ما تحقق على صعيد التعليم الجامعي، حيث شيدت ماليزيا عشرات الجامعات المرموقة والتي أضحت تمثل نماذج للجامعة المتطورة الرائدة في مجالاتها، الأمر الذي دفع بآلاف الطلاب الأجانب إلى ماليزيا للدراسة، ليس فقط من بلدان الشرق بل من الدول الغربية ذاتها، وتطالعنا بعض الإحصائيات إلى أن جامعة بوترا – مثلاً- يتواجد فيها ما يقارب ألف طالب دراسات عليا أجنبي وفدوا من 54 بلداً، ويقدر عدد الطلاب الأجانب بنحو أربعين ألف في عام 2005م، وثمة طموح لدى الماليزيين بأن يلامس الرقم مائة ألف بحلول عام 2010م، هذا ويؤكد الماليزيون كثيراً على رفع مستوى الجودة التعليمية ويعتبرونها سمة للتعليم الفعال القادر على بناء كفاءات وطنية مؤهلة، فهم يرغبون – مثلاً – في حصول جامعاتهم على شهادات الجودة الشاملة، ويستهدفون تقليل نسبة الأستاذ إلى الطلاب من 1:20 إلى 1:16، مع أنهم يتطلعون إلى زيادة عدد الطلاب في التعليم العالي من ستمائة ألف إلى مليون وستمائة ألف طالب، كما يشددون على رفع جودة الأبحاث والدراسات وزيادة كميات الأبحاث المنشورة (المصدر أنظر الخطة الماليزية التاسعة 2006-2010). وفي عام 2004م استطاعت الجامعة المالاوية UM أن تحقق مرتبة متقدمة (89 ) في التصنيف العالمي للجامعات Times Higher Education Supplement (www.thes.co.uk) ، وقد تقدمت بذلك على الكثير من الجامعات المرموقة مثل: كينقز كولج (لندن)، وجامعة بريستول، وجامعة جلاسكو ، كما اختيرت الجامعة الوطنية الماليزية ضمن أفضل 100 جامعة في العلوم، ولم يكتفِ الماليزيون بهذا بل أشار وزير التعليم العالي السيد مصطفي محمد إلى أنهم يطمحون أن تكون جامعتان ماليزيتان على الأقل ضمن أفضل 50 جامعة عالمية بحلول عام 2010م. وهنا أود الإشارة إلى ضرورة عدم التعلق الشديد بالتصنيفات (العالمية) نظراً لبعض الملاحظات المنهجية في طريقة التصنيف وما يلحقها من تحيزات لا يمكن تبريرها وهذه قضية جوهرية رأيت من الماليزيين من يشير إليها أيضاً، غير أن هذا لا يعني نسف تلك التصنيفات تماماً ولكنه الاعتدال والتنبه لبعض الملاحظات التي قد تؤثر على مصداقية التصنيف أو دقته! ولو عدنا إلى موضوعنا الأساسي، لأمكننا أن نخلص إلى أن (الماليزيين) استطاعوا أن يتجاوزوا بكل براعة مستويات تحقيق أقدار من التطوير أو التحسين الجزئي في نظامهم التعليمي إلى تحقيق نهضة علمية شاملة، نهضة جديرة بأن نخضعها لدراسات متعمقة وأن نفيد من دروسها وتجاربها، والأهم من هذا كله هو الإيمان بأن المشروع الحضاري هو الشرط الموضوعي لتحقيق تلك النهضة، فهل ندفع تكاليفه كاملة غير منقوصة لنظفر بثمرات تحضرنا وننعم بزهرات تمدننا ... * ( [email protected])