كنت قد كتبت مقالة سابقة عن ماذا لو تولى الإسلاميون الحكم، نشرها أ. جمال سلطان في عموده اليومي، تناولت فيها قضية أولويات من يرى بضرورة تطبيق الشريعة، وكونها تختلف عن معظم ما يدور بعقول الناس من كون كل ما يشغل بال الإسلاميين هو غلق السينمات وفرض الحجاب واللحية وتكبيل الحريات العامة، واليوم أناقش قضية لماذا تكونت هذه القناعات لدى كثير من الناس، حتى صار الموضوع أقرب إلى نظرية بافلوف الخاصة بالانعكاس الشرطي، فلا يذكر الإسلاميين إلا ويتبادر إلى الذهن الكثير الرجعية والتخلف واستغلال الدين لأغراض شخصية ورفض الآخر، إلى آخر ما ينسب إلى التيار الإسلامي من أتهامات. والسبب الرئيس في هذه الظاهرة هو حملات التغريب التي شنها الغرب على المسلمين بعد أن وصلت دولة الخلافة العثمانية إلى قلب أوروبا، واهتزت العروش الأوروبية من هذا المارد الذي لم تستطع قوة أن تقف في طريقه، حينها أيقن الغرب أن معركة القوة مع الدولة الإسلامية معركة خاسرة، وبدأوا في تغيير استراتحيتهم إلى الحرب الفكرية، فبدأوا بعقد المعاهدات مع تلك الدولة العظيمة، والتي ستسمح لهم بعد ذلك بالتسلل إلى قلب الدولة العثمانية ومحاولة التأثير الفكري على ابنائها، وقد بدأ هذا المخطط منذ ما يقرب من ستة قرون، وكانت أولى هذه الخطوات معاهدة الامتيازات العثمانية الفرنسية والتي كانت في عام 941 ه / 1525 م. وليس معنى ما ذكرته هو الركون التام إلى نظرية المؤامرة، والتغافل عن الكثير من الاخطاء التي ارتكبتها الدولة العثمانية بشكل خاص والمسلمون بشكل عام مما أدى في النهاية إلى زوال دولة الخلافة الإسلامية –نسأل الله أن يردها-، ناهيك عن انشغال كثير من المسلمين بالمظهر دون الجوهر، وتحول الإسلام في قلوب الكثيرين إلى شعائر تعبدية لا تجد لها أثرا في تعاملاتهم. فما الحل إذا، هل يكتفي الإسلاميون بالعزلة والاكتفاء بالتحاور مع أنفسهم لتيقنهم من أن الآخر لن يقتنع!!! بالطبع لا. فإذا كنا نزعم أن محاولات التغريب هي السبب الرئيسي فيما وصلنا إليه، وهم قوم لا يتكلمون بألسنتنا ولا يعيشون بيننا، بل فقط استعملوا قوم من جلدتنا وجدوا فيهم ميلا إلى أفكارهم، فاهتموا بهم وعملوا على إيصالهم إلى مراكز التأثير لدى المسلمين، ثم كان في هولاء القلة الكفاية وزيادة، فقد ربوا من بعدهم على مبادئهم، وصاروا كما يقال "ملكيين اكثر من الملك"، وبات هولاء القوم يقولون مالا يجرؤ الغرب نفسه على التفوه به، والأمثلة كثيرة بدءا من بعثة التنوير –اقصد الظلام- التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، ومرورا بأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين، أما في هذا العصر فحدث ولا حرج، هل سمعت عن دعاة الثقافة والحرية الذين يزعجهم صوت الآذان ولو كان بأحلى الأصوات، أو من يؤذيهم رؤية حجاب المرأة المسلمة، وأقول حجاب وليس نقاب، فما بالك بالنقاب. ولقد وصل هولاء إلى عقول الناس بالجهد والعرق، فلم يألوا جهدا في إيصال أفكارهم إلى الناس، ولم يتحرجوا من الهجوم المتواصل على الإسلام والنيل من كل من يرغب في عودة الإسلام إلى التأثير الحقيقي في حياة الناس بدلا من أن يظل قابعا في المساجد. فمفتاح الحل بيد كل من يؤمن بأن الإسلام لم يجعله الله إلا ليطبق في حياة الناس، وليس ليكون مجرد بعض الشعائر التعبدية التي ليس لها أي تأثير حقيقي على حياتنا. إذا كنت على يقين حقيقة بذلك، فاجعل كل تصرفاتك وتعاملاتك مع الناس انعكاس حقيقي لتعاليم هذا الدين العظيم، واحذر من أن يؤتى الإسلام من قبلك، واعلم أن كل خطأ يصدر منك لن يؤخذ عليك وحسب، بل سيمتد تأثيره إلى كل من يدعو إلى ما تدعوا إليه، بل وقد يمتد إلى المبدأ نفسه. أنا لا أطلب منك أن تكون ملاكا لا تخطئ، فكل البشر خطاءون، ولكن اطلب منك الاجتهاد واخلاص النية لله، والله الموفق. أمر آخر مهم وهو الحث على تشجيع ثقافة الحوار وتقبل الآخر، وتذكر قول الله عز وجل "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" وليكن لنا في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولنتدبر ما فعله صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة حين استمع إلى ما يقوله من كلام أقل ما يوصف به أنه ترهات، ثم قال قولته الشهيرة "أقد فرغت يا أبا الوليد"، ثم بدأ في الرد عليه بالحجة والبينة. ولا يظن ظان أننا قد يطول بنا العمر حتى نصلح ما أفسدوه ونرى الحلم حقيقة، فأمر الله غالب، ولكن لنستعن بالله ولنتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم "أن يخلوا بيني وبين الناس"، فقد كان منهج النظام السابق في أن يحول بين الناس وبين الدعوة، والفرصة الآن سانحة فلا تضيعوها بالله عليكم. ولنا عودة في مقالة قادمة بأذن الله تعالى نكمل فيها ما بدأناه عن أولويات المرحلة وما يميز المنهج الإسلامي عن غيره، والله من وراء القصد. مهندس برمجيات مهتم بالتاريخ الإسلامي كمشروع للتطبيق في حياتنا المعاصرة