بصراحة لا أمريكا تريد الديمقراطية في مصر ولا اسرائيل، فالديمقراطية قد تأتي بنظام حكم جديد يضع المصالح المصرية على قمة اولوياته، وفي هذه الحالة فان توجهات ذلك النظام سوف تتعارض لا محالة مع المصالح الامريكية والاسرائيلية، وهذا بالتأكيد آخر ما تريده واشنطن وتل ابيب! لقد دعمت أمريكا مبارك ثلاثة عقود كاملة، ولم تهتم كثيرا باستبداده وانتهاكاته لحقوق الانسان، ولم تكن في الواقع معنية بشيء من ذلك كله، فقد كان كل ما يهمها هو التزامه بالدفاع عن المصالح الاستراتيجية الامريكية والسلام مع اسرائيل ومواجهة ايران وحماية تدفق النفط والتعاون فيما يسمي بمكافحة الارهاب. لم يكن مبارك سوي رجل امريكا القوي في المنطقة، ولم يكن من الوارد ان تتخلى واشنطن عن مساندته في مواجهة اي تحديات داخلية أو خارجية، صحيح انها كانت تنتقد احيانا بعض ممارساته القمعية لكن ذلك كان مجرد ذر للرماد في العيون، فامريكا لم تفكر لحظة في خفض مساعداتها لمبارك احتجاجا على قمعه للشعب المصري، بل علي العكس قدمت لنظامه مساعدات بلغت اكثر من 61 مليار دولار خلال الثلاثين عاما الماضية، وكان نظام مبارك هو ثاني متلقي للمساعدات الامريكية بعد اسرائيل. الاهم من ذلك ان إدارة الرئيس اوباما لم تكن تمانع في انتقال السلطة من مبارك الاب الى مبارك الابن في الانتخابات الرئاسية التي كان مقررا اجراؤها في سبتمبر المقبل، فقد كان توريث الحكم برغم كل ما كان يواجهه من تحديات هو الضمان الحقيقي لاستمرار العلاقات المصرية الاسرائيلية بشكلها الحالي، وكان معروفا ان اسرائيل تؤيد انتقال السلطة لجمال مبارك حفاظا على امنها ومصالحها. ومع قيام ثورة 25 يناير اصيبت امريكا بصدمة حقيقية، فلا المخابرات الامريكية كانت توقع قيام ثورة شعبية في مصر بهذا الحجم ولا في هذا التوقيت، ولا الادارة الامريكية كانت لديها خطة جاهزة لانقاذ مبارك، صحيح ان البنتاجون اصدر اوامره يوم 27 يناير الماضي بتحريك احدى حاملات طائراتها قبالة سواحل الاسماعيلية، لكن امريكا لم تكن تتوقع سقوط مبارك بهذه السرعة ولعل هذا ما دفع وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون للتأكيد في بداية الثورة على ان نظام مبارك قوي ومستقر. بالطبع لم يصمد الدعم الامريكي لمبارك طويلا، فقد أدي اتساع حجم ونطاق الثورة الى تغيير متدرج في موقف الادارة الامريكية، فمن دعوة من جانب الرئيس اوباما لنظيره المصري الى تجنب وقوع خسائر في الارواح، الى تاييد امريكي لتشكيل حكومة انتقالية في مصر دون مساس بالرئيس، الى مطالبة مبارك صراحة بالرحيل واجراء انتقال سلمي ومنظم للسلطة، بهدف الحفاظ على النظام القائم ! لم تكن واشنطن ترغب ولو للحظة واحدة في رحيل مبارك، فقد كان حليفها الاول في المنطقة، والصديق الحقيقي لاسرائيل، لكن ماذا كان بوسعها ان تفعل بعد خروج عشرات الملايين من المصريين الى الشوارع للمطالبة برحيل مبارك واعلان الجيش المصري وقوفه الى جانب الثورة، وهكذا اضطرت واشنطن للتسليم برحيل مبارك حفاظا على النظام القائم على امل استبدال مبارك بحليف جديد يضمن مصالحها الاستراتيجية وامن اسرائيل بالتأكيد الموقف الامريكي لا يختلف كثيرا عن الموقف الاسرائيلي، فتل ابيب اعتبرت رحيل مبارك بمثابة خسارة كبيرة لامنها القومي، وحسب تعبير اكثر من مسئول اسرائيلي فان بلادهم فقدت حليفا استراتيجيا، وباعتراف المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس" كان مبارك الصديق الاقرب لبنيامين نتنياهو. ومن المؤكد ان اسرائيل لا تريد نظاما جديدا في مصر يمكن ان يشكل تهديدا لمعاهدة السلام وتصدير الغاز لاسرائيل والتعاون الاقتصادي في اطار برنامج الكويز والموقف المشترك من ايران وحزب الله وسوريا و حركة حماس والجماعات الدينية المتشددة. وهكذا فان امريكا لا تريد اجراء تغييرات كبيرة في مصر، ولا تحبذ قيام نظام ديمقراطي يمكن ان يتخذ مواقف مناهضة اسرائيل، او يقوم باجراء تغييرات كبيرة على طريق اعادة توزيع السلطة والثروة، لأن هذا سوف يشكل تهديدا حقيقيا لاصدقاء امريكا واسرائيل في مصر، وسوف ينعكس بالسلب على العلاقة الخاصة مع واشنطن وتل ابيب. كل ما يهم امريكا الآن هو استمرار مصر في الوفاء بالتزاماتها بغض النظر عن الثمن الفادح الذي دفعته من جراء تلك الالتزامات خاصة فيما يتعلق بتراجع معدلات التنمية ومعاناة الاغلبية الساحقة من المصريين! كل ما تريده امريكا من مصر الآن لاعلاقة له من قريب او بعيد بالديمقراطية، فالمهم الآن ان تلتزم مصر بضمان المصالح الامريكية وامن اسرائيل!