الأيامُ القليلة القادمة حاسمة ومفصليَّة في المشهد الليبي، ولا ينحصر الأمر على مستقبل البلاد فحسب، بل وسيمتدُّ إلى مستقبل رياح التغيير والتي تعصف في المنطقة العربيَّة، فهزيمة القذافي ونهاية عهده الدموي والفاسد سيرفد حركات التغيير بدعم مادي ومعنوي كبير، فيما يشكّل تمكّنه من استرداد زمام المبادرة ضربة نفسية كبيرة للشعوب الساعية للتغيير خصوصًا في دول عربيَّة بوليسيَّة تتشارك مع القذافي في الإصرار على إنكار الحقائق، وفي تدمير المدن بوحشيَّة هائلة للتمسك بالسلطة ضمن حسابات تعتمد على التقسيم والتشظي. منذ الأيام الأولى لانتفاضة الشعب الليبي تردَّدت فكرة تقسيم البلاد، بل إن أول خطاب لسيف الإسلام القذافي تحدث بصراحة عن الانفصال وكرر تلك الكلمة في خطابه البائس تسع مرات، عدم قدرة أي من الطرفين على حسم المعركة لصالحه وتردد بعض القبائل خصوصًا تلك التي ينتمي إليها ديكتاتور ليبيا، قد يكرس واقع انفصالي مقلق مع التذكير بأن تفتيت دول المنطقة أمر يوافق هوى غربي وصهيوني كما حدث في العراق والسودان. التدخل الأجنبي يبدو خيارًا مطروحًا وتتزايد فرصه مع تزايد جرائم قوات القذافي ومرتزقته، وارتفاع الأصوات الداخليَّة والتي تطالب الغرب بالتدخل سواء من خلال فرض حظر جوي أو عن طريق توجيه ضربات خاطفة للقواعد ومراكز كتائب القذافي ومرتزقته، التدخل الأجنبي له محاذيره وعواقبه، كما أن له دوافعه ومبرراته بالنسبة لقوات الناتو، الاعتراض الروسي والصيني على التدخل الغربي –خشية من ازدياد الهيمنة الأمريكية على الموارد النفطية- يحول بين الناتو والحصول على غطاء دولي، كما أن القوات الأمريكيةوالغربية والتي تواجه المستنقع الأفغاني القاسي والوعر، تخشى من الانزلاق إلى منحدر أخر ومستنقع جديد قد يستنزف مزيد من المقدرات والهيبة الغربية. من جهة أخرى يخشى الغرب من أن تتحول ليبيا خصوصا إذا ما طال الصراع إلى نقطة استقطاب للثائرين والمعارضين العرب والذين يجدون في التطورات الليبية قناعة بأن التغيير السلمي ليس هو السبيل مجدي مع أنظمية وبوليسية، فيلجئون للقسم المتحرر من ليبيا دعما للثوار وللحصول على خبرات ضرورية لنقلها لبلدانهم الواقعة تحت هيمنة حكومات قمعية فاسدة. وإذا ما توثقت الأخبار عن دعم أنظمة عربية للقذافي في معركته الوحشيَّة ضد ليبيا مدنًا ومواطنين، فإن دوافع ومبررات وجود مثل هؤلاء المقاتلين ستكون بالنسبة لكثيرين مقنعة ومبررة. هذه الخيارات بالإضافة إلى الخشية من تصاعد نفوذ الإسلاميين وحتى المعتدلين منهم على ثوار ليبيا مع الحرص على المصالح الاقتصادية وتأمين تدفق النفط تدفع بالغرب -خصوصًا الدول الأوربية- للدفع في اتجاه لعب دور أكبر من مجرد التنديد أو العقوبات الاقتصادية أو السياسية على نظام القذافي، من الممكن أن يكون التدخل الغربي غير مباشر وغير مرئي، من خلال الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي ودعمه بالخبرات العسكريَّة والطلب من دول عربية تزويد مقاتليه بالسلاح والعتاد، مما يحول بين الغرب والتورط المباشر ويحفظ نفوذه في الساحة الليبية. خيارات صعبة، وساعات حاسمة تواجه ليبيا وأهلها المنتفضين على حكم فاسد ودموي، وإذا كان البعض يستنكر على الليبيين الواقعيين تحت نيران القذافي، الطلب من الغرب فرض حظر على الطيران أو توجيه ضربات، ويقولون إذا تدخل الغرب لامَه البعض وإذا استنكف عاتبه آخرون!! غير أن نظرة واقعية للمواقف الدول الغربية من ليبيا ودكتاتورها تظهر بجلاء أن تلك الدول تتحمَّل مسئولية أخلاقية ومعنوية على ما يتعرض له الليبيون من إبادة ومعاناة، فالسلاح الذي يقتلون به هو سلاح غربي بأموال ليبية، والقذافي غسل جرائمه الإرهابيَّة الخارجية في لوكيربي وغيرها بمبالغ طائلة من أموال شعبه المسحوق، وقد تلقى دكتاتور ليبيا وسفاحها مديحا وإطراء وزيارات من قادة للغرب في سبيل حصول دولهم وشركاتها على صفقات ومشاريع ليبية. فيما وصف بيان للخارجية الأمريكية القذافي عام 2004 وبعد دفعه تعويضات لوكيربي بأنه شريك مهم في الحرب على الإرهاب، وهو أمر كرَّره توني بلير حين كان رئيسًا لوزراء بريطانيا. المشاركة الفعَّالة في ما يسمى بالحرب على الإرهاب أمر كرره كثيرا القذافي في الأيام الأخيرة، مستنكرا عدم وفاء الغرب لخدماته الجليلة في هذا المضمار، بل إنه يعتبر نفسه الآن في حرب على الإرهاب وعلى القاعدة، وإذا لاحظنا اختفاء التهديدات الإرهابيَّة في دول عربيَّة شهدت ثورات وغياب للأمن مثل تونس ومصر لوجدنا أن الحرب على الإرهاب كانت في كثير من جوانبها حرب خادعة تستخدم الإرهاب كذريعة للهيمنة السياسيَّة ولتخويف الشعوب وحرمانها من حرياتها السياسية وحقوقها الإنسانية. في خطابه الأول قال سيف القذافي "الغرب وأوروبا وأمريكا، لن يسمحوا بإقامة إمارات إسلاميَّة في ليبيا بالوضع الحالي، يمسكها مجموعة من البلطجيَّة ومجموعة من الإرهابيين والمجرمين. أوروبا والغرب وأمريكا، لن يسمحوا أن يضيع النفط في ليبيا"، هنا يعترف خليفة القذافي بأن نظامهم الثوري في شعاراته وعبثه كان ضمن اللعبة السياسيَّة الغربية فيما يسمح له أو لا يسمح. الشعوب العربية تدفع غاليًا ثمن صمتها على طغاتها، والثمن المكلف والمؤلم الآن أقل وبالتأكيد مما ستدفعه مستقبلا إن رضيت بأن يواصل حكمها والتحكُّم بها طغاة فاسدون وقتلة مجرمون. المصدر: الاسلام اليوم