بعد عصر يوم السبت 9 أكتوبر 2004 توقفت سيارة الترحيلات أمام بوابة سجن مزرعة طرة قادمة من نيابة أمن الدولة في مصر الجديدة. ترجلت من السيارة ولم يكن معي سوى وجبة غداء و"تريننج أبيض" أتى بهما الأستاذ عبد المنعم عبد المقصود المحامي. قبل دخول السجن صليت العصر على العشب أمام البوابة ثم دخلت. سلم ضابط الترحيلات للسجن أمر النيابة بحبسي احتياطيًا مدة خمسة عشر يومًا بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين. ارتديت التريننج وسلمت ملابسي المدنية وبطاقتي والنقود القليلة التي كانت معي لأمانات السجن، ثم اصطحبني الرائد المهذب الخلوق أحمد عنتر إلى الداخل. عبرنا بوابة حديدية في مواجهة بوابة السجن ثم انعطفنا يسارًا. بدا أمامي مبنى من طابق واحد طوله قرابة 200 متر، عرفت فيما بعد أن يضم عنبرين ملتصقين: عنبر1 إلى اليسار وعنبر 2 إلى اليمين. مررنا بورشة وملعب متهالك للكرة الطائرة، حتى وصلنا بوابة العنبر التي كانت مغلقة. وإلى يمين ويسار جدار العنبر أقيم مبنيان صغيران منفصلان، على كل واحد منهما بوابة حديدية، هما ما يطلق عليه ملحق عنبر 2. دخلنا الملحق الذي إلى اليمين، وهو عبارة عن 7 غرف صغيرة مساحة الغرفة 2×2 متر تقريبًا. وتوقفنا عند الغرفة الأخيرة. فتح الحارس الغرفة ودخلت. كانت الغرفة خالية تمامًا، أرضيتها من الأسمنت لكنها على العموم معقولة: الحوائط مطلية بالبلاستيك الأبيض، وبها إضاءة نيون ومروحة لا تعمل، وفتحة بالسقف بلا زجاج. كانت هذه الغرفة تحديدًا بها ميزة خاصة، فقد ألحقت بها الغرفة المجاورة وكان بها حوض للغسيل، وبجواره "تواليت عربي"، فوقه دش. ضحكت وقلت للرائد عنتر: هذا سجن 5 نجوم. حقيقةً لم أكن أتوقع أن أجد السجن بهذا الحال، فقد ترسخت في ذهني صورة السجون المتهالكة التي تمتلأ جدرانها السوداء بالشقوق، وتجري فيها الحشرات. وكنت قد خرجت في صباح اليوم ذاته من حجز قسم شرطة الدقي الذي أودعت فيه قرابة 30 ساعة كانت أسوأ 30 ساعة في حياتي، قضيتها مع المجرمين من كل نوع والشمامين والمدمنين في زحام لا يطاق، ودورة مياه بلا باب، حيث يتقاسم السجناء المكان بالبلاطة؛ لكل واحد بلاطتان، وقد دفعت 50 جنيهًا بعد أن "عرض" أحد المحتجزين عليّ أن أنام في مكانه فوق مصطبة من الأسمنت.. وهو عرض كان الهدف منه الحصول على المال لا مساعدتي. وقد تمكنت من داخل حجز القسم من الاتصال عبر المحمول المهرب للداخل بإبني بتكلفة 20 جنيهًا للمكالمة وأبلغته بمكاني، فاتصل بدوره بالأستاذ صلاح عبد المقصود وكيل نقابة الصحفيين، ومع ذلك فحين اتصلوا بالقسم أنكروا وجودي داخله!. بعد تلك المعاناة في قسم الدقي، والصورة الذهنية التي رسمتها مخيلتي للسجن، وتوقعي مرات ومرات أن أكون بالسجن كسائر من أعرف من الإخوان الذين كانوا ضيوفًا دائمين على السجون، بدا "الجناح" الذي نزلت فيه بسجن المزرعة بالفعل كأنه فندق خمس نجوم. بعد قليل، جاء أحد السجناء من المنتمين للجماعات الإسلامية، وكان السجن يعج بهم، ودخل عليّ مبتسمًا محييًا وأعطاني حصيرين وبطانيتين وكيسًا به تمر وطعام وماء وفوطة، أرسلها لي الإخوان الموجودون في العنبر الرئيس وكانوا وقتها بالعشرات، وقد ظلوا يتعهدونني ويرسلون لي فوق ما أحتاج فكنت أوزع مما عندي على السجانين الذين يقومون على حبسي. بقيت في "جناحي" 13 يومًا لم أخرج منه إلا مرة أو مرتين في أمر لا يستغرق أكثر من ساعة. وفي مقابل الجناح المتسع، فرضت عليّ عزلة قاتلة، فقد أخليت بقية غرف الملحق، وبقيت وحدي في المكان كله ولم يُسمح لي حتى بالخروج لصلاة الجمعة. بعد ذلك أمكن الخروج من الزنزانة للتريض لمدة نصف ساعة في اليوم في الممر الفاصل بين الغرف، زادت إلى ساعة، وعند خروجي كان المخبر يقف على باب الملحق ليمنع الإخوان الذين كانوا يسعون للوقوف وراء الباب للحديث معي. بعد شهر تركت الملحق، إلى داخل العنبر مع خمسة من المحكوم عليهم عسكريًا في القضية التي عرفت باسم قضية أساتذة الجامعات، وكان فيهم د. محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد. دارت تلك الذكريات بمخيلتي حين علمت أن حبيب العادلي وزير الداخلية السابق الذي لفقت لي مباحث أمن الدولة القضية في عهده البائد، قد دخل نفس الملحق الذي كنت فيه، فيما نزل المغربي وجرانة وعز في الملحق المقابل الذي كان مخصصًا للتأديب، وكانت حالته سيئة للغاية وليست به دورات مياه، ثم دخله رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، فأصلحه. ورغم أن كل معارض عاش عهد مبارك الأسود كان يتوقع السجن إلا أن ذلك لا يخفف إلا قليلا من المعاناة داخله، فالحرية تاج على رؤوس الأحرار، لا يحس بمرارة فقده إلا من قيدت حريته. فما بالنا بمن عاشوا ملء السمع والبصر؛ يأمرون فيطاعون، وتفتح لهم الأبواب، وتنحني أمامهم الجباه، وتشخع -إذا تكلموا- الأصوات، ويأنف أحدهم أن ينحني ليلبس حذاءه؟. دخل الوزراء والكبراء السجن، وأضطروا أن يحملوا بطاطين السجن بأيديهم، وأن يناموا على الأرضيات الأسمنتية، وأن تغلق دونهم الأبواب الحديدية، وأن يأكلوا من طعام السجن، وأن يشربوا من مياه الحنفيات، ويغتسلوا بالماء البارد في الشتاء، وأن يبحثوا عن كراسي بلاستيك مكسورة من بقايا ما تركه سجناء الإخوان المسلمين ليجلسوا عليها. وعلمت أن العادلي حين خرج لاستكمال التحقيقات بالنيابة وشاهده أهالي السجناء الذين جاءوا للزيارة، ترك الأهالي الزيارة وخرجوا ليعتدوا عليه، حتى اضطرت إدارة السجن لإخراجه من باب جانبي مخصص لدخول عربة الزبالة التي تجرها الحمير. حتى أن السجان الذي لم يكن يومًا يحلم أن يتشرف بأداء التحية لسيادة الوزير، أصبح يتجرأ عليه، ويقول بصوت يسمعه العادلي: أهو مرمي........! ومن حكمة الله تعالى أن يتأخر الإفراج عن اثنين هما من أكثر من عانى من ظلم العادلي وسائر بطانة السوء في عهد مبارك: المهندس خيرت الشاطر نائب مرشد الإخوان، ورجل الأعمال حسن مالك، وهما في عنبر2 منذ عام 2007، ليشهدا بعيونهما كيف أذل الله من ظلمهم، وأرغم أنوف من أفسدوا في البلاد. فسبحان المعز المذل.. [email protected]