تراث الخوف في بلادنا طويل ، وهو خوف ممزوج بالتهميش والإحساس بأن هذه البلاد ليست بلادك وأنت ضيف ثقيل على مؤسساتها وقياداتها ينبغي أن تتوجه إليهم بالشكر لأنهم يقبلون بك مواطنا في بلادهم ، كما أنهم يقومون بكل شيء نيابة عنك ، يشرعون الشرائع ويضعون القوانين ويصنعون البرلمانات ويشكلون الحكومات ، كل ذلك في غيبتك ، وإذا فكرت في الاعتراض أو الاحتجاج سحقوك بآلة أمنية متشعبة وباطشة وجعلوك عبرة لغيرك لو فكر أن يكون شريكا لهم في هذا البلد . تراث الخوف يصعب أن ينفضه المواطن عن كاهله وخياله وحتى ثقافته السياسية بين عشية وضحاها ، يحتاج إلى وقت لكي يستوعب أنه مواطن بكل ما تحمله المواطنة من حقوق ومن شراكة ومن ثقة بأن هذا البلد هي بلده مثلما هي بلد رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو أي شخص آخر على أرضها من مواطنيها ، وهذه الأزمة ، أزمة الإدراك بمعنى المواطنة هي التي تشيع أجواء من الخوف والقلق الآن تجاه المستقبل من كل أطياف المجتمع . بعض أبناء التيار الإسلامي يتخوفون من المساس بالمادة الثانية للدستور ، ولهم الحق في الدفاع عن مطلبهم ، لكني لا أرى مبررا لخوفهم ، لأن شيئا لن يمر إلا من خلالهم ، مضى الزمن الذي كان فيه آخرون يقررون ويصوتون نيابة عنك ، والحقيقة أن بعض المتطرفين على الجانب الآخر لم يكونوا موفقين أبدا عندما تركوا كل شيء وراحوا ينبشون الكلام عن هذه المادة تحديدا ويطالبون بتغييرها ، رغم أن أشواق مصر أبعد ما تكون عن هذه المادة ، أشواق مصر الحقيقية في برلمان حقيقي غير مزور وقضاء مستقل وانتخابات حرة وسيادة للقانون ومؤسسات رقابية مستقلة وذات صلاحيات واسعة وحصانة وإطلاق حرية تكوين الأحزاب وحرية إصدار الصحف وحرية تشكيل الجمعيات الأهلية ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، ورئيس للجمهورية يأتي بإرادة الناس من بين مرشحين لهم كل الحق والضمانات وليس بالتزوير والبلطجة ، وإلغاء للطوارئ وكل القوانين الاستثنائية أو المقيدة للحريات ، ولذلك أتصور أن من يطرح النقاش حول المادة الثانية الآن لا يضمر خيرا للإصلاح ويريد تعطيل المسيرة فقط ، نحن الآن في حاجة إلى إنجاز حزمة الإصلاح المجمع عليها من الأمة ، وبعد ذلك من حق الجميع أن يطرحوا ما هو مختلف عليه ، بما فيه هذه المادة من خلال برلمان منتخب بنزاهة كاملة وقواعد انتخابية يضمنها ويحرسها الإشراف القضائي الكامل ، على الأمة ، والناس تقرر وتختار بدون أي وصاية من أحد ، ودون خوف من أحد ، المواطن هو السيد ، وهو المرجع ، وهو الحاكم الحقيقي ، لا النخبة ولا الرئيس ولا الجماعة الدينية ولا الحزب السياسي . أيضا مخاوف البعض من اختطاف الدولة أو الثورة ، هو من تراث الخوف الثقيل الذي يتصور أن من يقبض على زمام القيادة سيكون هو "الفرعون" الجديد الذي يفعل ما يريد ، وهذا ما يجعل البعض يتحدث بحذر من الإخوان المسلمين ، وآخرين يتحدثون بحذر عن الدكتور البرادعي ، وغيرهم عن أيمن نور ، وغيرهم عن فلول الحزب الحاكم السابق الذين يبحثون عن مواطئ أقدام لهم في المركب الجديد ، وكل ذلك وساوس لا معنى لها في مصر الجديدة ، لا تشغلنا الأسماء ، وإنما ينبغي أن تشغلنا المؤسسات ، إذا نجحنا في تشكيل بنية مؤسسية دستورية وقانونية وسياسية عادلة وشفافة وديمقراطية تعيد القرار والمرجعية والسيادة للمواطن ، فأهلا وسهلا بأي شخص أو حزب أو جهة تقول أنها تملك مشروعا للإصلاح ، من أحسن سنقول له أحسنت وندعمه ونعيد انتخابه ، ومن أساء سياسيا سننحيه ونسقطه أيا كان اسمه أو حزبه أو تياره في أول انتخابات أو حتى من خلال سحب الثقة في البرلمان ولو بعد أقل من عام ، ومن أفسد فإن المؤسسات الرقابية والقضاء المستقل سيكون سيفا يقطع فساده ويجعله عبرة ، وهذا يسري على الجميع ، لن ينظر المواطن إلى اللافتات والشعارات الجميلة والبراقة ، دينية أو حداثية أو غيرها ، وإنما سينظر إلى الممارسات والسياسات والإنجازات على أرض الواقع ، وهذا هو ما سوف يحقق النهضة الحقيقية لمصر . تراث الخوف ثقيل ، وهو الذي يجعل بعض من يقرأ هذه الرؤية السابقة ينظر إليها كلوحة جميلة من الأماني التي لا صلة لها بالواقع ، ولكني واثق تماما ، أن هذه هي مصر المستقبل الذي سنراه ونعيشه بإذن الله قريبا جدا ، فقط نحتاج إلى أن ننفض عن خيالنا وذاكرتنا تراث الخوف حتى لا يعيقنا عن التفكير السوي والبناء ، وأن ننشغل بالمستقبل والبناء وتصور الحلول والإبداع أكثر من انشغالنا بالخوف من كذا وكذا ، وشريطة أن يتمسك كل منا بأقصى درجة من الإحساس بالمسؤولية تجاه وطنه في تلك اللحظات التاريخية الحاسمة . لقد حققت كوريا وماليزيا وتركيا خلال عشرة أعوام فقط من تحولهم إلى الديمقراطية طفرة اقتصادية وتنموية جعلت منهم نمورا اقتصادية تذهل العالم ، بطفرات تنموية هائلة وبنية أساسية تضارع مثيلاتها في أوربا ومستويات للدخل تجعل متوسط دخل المواطن هناك يقارب مثيله في أوربا ، خلال عشرة أعوام فقط ، ولسوف يبرهن المصريون في ظل الديمقراطية والحرية المفجرة لطاقات الإبداع والمجففة لمسارب الفساد على أنهم خلال أقل من تلك المدة قادرون بعون الله على تقديم "نمر" اقتصادي وتنموي جديد يغير وجه المنطقة كلها . [email protected]