قدمت ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي الجامعات الإسلامية وبناء التقاليد العلمية مع الجامعات الآسيوية – عقدته رابطة الجامعات الإسلامية، في الفترة من 8-14 يناير 2011م، واستضافته جامعة دار السلام الإسلامية، إندونيسيا، عن تجربة التعليم الجامعي في تركيا، ويسرني أن أعرض أهم ملامح تجربة الجامعات والبحث العلمي في تركيا، ودوها في النهوض والعالمية، خصوصا وأن الجامعات التركية موظفة في خدمة التنمية المحلية والقومية، حيث يرتبط التعليم الجامعي والعالي في تركيا بخطط التنمية وبنهضة المجتمع بشكل علمي منهجي منظم، ولتوضيح هذا الأمر أورد الملاحظات والحقائق التالية التي توضح عدد الجامعات واستقلالها عند السلطة التنفيذية، وكيفية التسجيل والقبول بها وتوظيفها في خدمة سياسات وخطط وبرامج التنمية المخططة في تركيا. أولاً: يصل عدد الجامعات في تركيا إلى 132 جامعة، وهناك خطة طموحة لأن يصل عددها إلى 500 جامعة عام 2020 وتم استفتاء الشعب للوقوف على رأيه في دعم وتزايد أعداد الجامعات، وجاءت النتيجة أن غالبية من طبق عليهم الاستبيان يوافقون على هذا. ويرجع ذلك إلى عدة متغيرات منها: -كفاءة التعليم الجامعي - القناعة أن التعليم هو المشروع القومي لنهضة تركيا - قوة الإعلام وتركيزه على إقناع الناس بحتمية النهضة التعليمية لرفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية حياة الناس في تركيا. ثانياً: استقلال الجامعات وعدم خضوعها للتغيرات الوزارية فالسياسة والخطط وبرامج التعليم العالي ثابتة ويضعها وينفذها المجلس الأعلى للجامعات الذي لا يتبع وزير التعليم العالي، وإنما يتبع مباشرة رئيس الجمهورية، وليس على الوزير والجامعات إلا تنفيذ قرارات المجلس الأعلى للجامعات، فالسلطة التنفيذية (الوزراء ومديرو الجامعات) ليس من مهامهم التخطيظ أو المتابعة أو التقويم أو تغيير السياسات والخطط، وإنما مهامهم الأساسية فقط هي التنفيذ وعلى حسب كفاءة التنفيذ يكون استمرار المسئولين أو تغيرهم. ثالثا: هذه الثنائية بين مجلس أعلى للجامعات يضع السياسات و الخطط ويتابع ويراقب، وبين أجهزة تنفيذية، هي الوزير ومديري الجامعات من شأنها ثبات السياسات والخطط التعليمية، وأيضا تحقيق الشفافية والعلمية والوضوح والمتابعة والمحاسبة الدقيقة لكل مراحل التنفيذ، وإنشاء جهات يراقب بعضها بعض. ورئيس الجمهورية هو الذي يشكل المجلس الأعلى للجامعات من بعض رؤساء الجامعات والشخصيات العامة والمفكرين والمشتغلين بالشأن العام والعلماء. وهذا المجلس يمثل العقل الجمعي للأمة التركية وهو الذي يضع سياسات التعليم العالي ويتابعها ويربط بين هذا التعليم وحاجات السوق وحاجات خطط التنمية، فالتعليم استثمار طويل المدى موظف في خدمة كل خطط التنمية الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية والصحية.... إلخ. هذه الازدواجية في مجال التعليم العالي بين واضع السياسات والخطط، ومنفذها يخلق وتفعل حاله الديمقراطية يصعب معها الانحراف أو إساءة استخدام السلطات. رابعاً: تتميز الجامعات التركية بالتمييز من حيث أسلوب وآليات إنشائها. فهم يطبقون مبدأ يطلقون عليه (الحلول المتزامنة المتعددة الخلاقة) فعند إنشاء جامعة جديدة يتم وضع سياسة وخطط لحل عدة مشكلات، وتحقيق عدة أهداف محلية وقومية وثقافية علمية... إلخ. فإنشاء جامعة جديدة يعنى التخطيط العلمي لأن تكون الجامعة معتمدة على نفسها توفر كل متطلباتها المادية والسلعية بنفسها، ليس هذا فحسب ولكنها تفتح المجالات قبل إنشائها لعمل خريجيها في عمل منتج بعد تخرجهم. وهذا يعنى على سبيل المثال ان قرار إنشاء جامعة في موقع ما يسبقه إنشاء مصنع للطوب، وآخر للزجاج ... إلخ، ويتم اختيار موقع الجامعة في المناطق المتخلفة أو العشوائية أو التي يخطط لتنميتها والنهوض بها أو حتى في الصحراء لجذب العمران إلى جوارها... لهذا تم بناء 132 جامعة. وهذا يعنى أنه بعد إتمام بناء الجامعة يكون قد تم إنشاء أكثر من عشر مصانع، وتم تشغيل أكثر من 6 آلاف عامل وموظف، كذلك تخطط الجامعة لإيجاد مجال حيوي لعمل الخريجين بعد التخرج وهذا هو معنى الحلول المتزامنة المتعددة الخلاقة، فمشكلات التخلف التعليمي والاقتصادي والبطالة والفقر ... يتم علاجها بشكل تكاملي شمولي. خامساً: تعمل الجامعات التركية بنظام البرامج المشتركة مع الجامعات الأوروبية والأمريكية. هذه البرامج تشمل مراحل الليسانس والبكالوريوس، كما تشمل مراحل الماجستير والدكتوراه. فالدرجات الجامعية الأولى لابد وأن تكون مشتركة مع جامعات أجنبية، أي معترف بها ومشتركة بين جامعتين، أحدها تركية والأخرى أوروبية أو أمريكية، وهذا يعنى حتمية ارتفاع مستوى الأداء العلمي والفنى والأكاديمي في الجامعات التركية إلى مستوى الجامعات الغربية. وينطبق هذا على نظم المقررات والأنشطة والمهارات والقدرات. والامتحانات تكون مشتركة بين الجامعة التركية والجامعة الغربية. وبهذا يتم ضمان مستوى الجودة ويستحيل التلاعب أو الانحراف. سادساً: استطاعت تركيا الاستفادة المخططة العلمية المنظمة من الخبرات العلمية التركية المهاجرة أو العاملة في الخارج، كما استفادت من المساعدات الخارجية بشكل علمي مخطط. فالعقول والخبرات التركية المهاجرة والمعترف بها دولياً يتم الاستفادة المنظمة بها عند بناء الجامعات وعند إعداد برامج الجودة بها، وعند متابعة وتقويم العمل العلمي والتربوي والأكاديمي للجامعات في تركيا. سابعاً: كذلك فقد اجتذبت سياسات التعليم العالي في تركيا إسهامات رجال الأعمال في مجال التعليم الجيد، وأثارت المنافسة بينهم في مجال إنشاء الجامعات. ورجال الأعمال يتنافسون هناك في مجالين استراتيجيين للتنمية ومواجهة التخلف، وهما مجالي التعليم والبحث العلمي والصناعة والاستثمار. ثامناً: يبلغ عدد الأساتذة في جامعات تركيا حوالي 100 ألف أستاذ تقريباً، ونادراً ما يعمل أي أستاذ جامعي خارج جامعته. وقد كان تصنيف الجامعات التركية عام 1981 رقم (42) بين جامعات العالم في مجال البحث العلمي. أما في عام 2008م احتلت تركيا الرقم (18) بين دول العالم في البحث العلمي وهكذا اجتازت وتقدمت تركيا وفقا للتقارير والمعايير العلمية لقياس معدل التقدم في البحث العلمي، ومنها النشر في دوريات علمية عالمية، والحصول على براعات الاختراع، والإبداع العلمي والحصول على جوائز عالمية. تاسعاً: نظام التسجيل والقبول داخل الجامعات التركية لايعتمد على التحصيل الأكاديمي في الثانوية العامة فقط، لكن هناك امتحان قدرات تحدده كل كلية حسب طبيعتها وتخصصاتها. ولابد لكل طالب أن يجتاز هذه الاختبارات حتى يقبل في الكلية المتخصصة. وهذه الاختبارات لا مجال فيها للمحسوبية أو الوساطة أو الفساد فهي مبرمجة آلياً، وهذا يعني أن تركيا تحاول التخلص من ما يطلق عليه عندنا مرض الثانوية العامة، وهو الاقتصار على نظام الامتحان المركزي المؤهل لدخول الجامعات بعد الثانوية العامة. عاشراً: يلتزم طلاب الجامعات هناك بالحضور في المحاضرات والمعامل والأنشطة والورش في الجامعة بشكل لافت للنظر وتصل نسبة الحضور إلى 100% في معظم أيام الدراسة. حادي عشر: الأساتذة في تركيا متفرغون تماماً للجامعات ويتم تعيينهم من خلال إعلان ومنافسة وحيدة كاملة. والنظام التركي يحاول تفكيك الكيانات الكبرى (جامعات الإعداد الكبرى)، وذلك لتحقيق الجودة الشاملة. ففي تركيا اليوم حوالي 132 جامعة، يخطط أن تصل إلى 500 جامعة عام 2020 . ثاني عشر: تغلبت الكثير من الجامعات التركية على مشكلة التمويل من خلال نظام الأوقاف الذي يراعي الجوانب الأكاديمية والخدمية والاجتماعية. وللجامعات التركية حرية في الحركة ومرونة في التصرف مما يمكنها من عقد الاتفاقات والمؤتمرات دون التقيد بإجراءات بيروقراطية معوقة للنهضة والتقدم والجودة. ثالث عشر: وبهذا استطاعت الجامعات التركية أن ترتبط بالتقدم العلمي، وبالمجتمع التركي، وبحاجات برامج التنمية والنهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن ترتبط أيضاً بأبعاد إنسانية وإسلامية مهمة تعلي من قيمة وكرامة الإنسان، وأبعاد وطنية وقومية ترتبط بمواجهة مشكلات المجتمع التركي. هذا ما أدى بالجامعات التركية إلى أن تحتل مكانة ضمن أفضل 500 جامعة عالمية على مستوى العالم، وذلك كل سنة. رابع عشر: أدركت الحكومة التركية أن خططها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يتطلب الاهتمام بتطوير التعليم العالي الجامعي لتجهيز مواردها البشرية للتنافس في بلدان أكثر تفوقاً. خامس عشر: تركيا بلد فقير نسبياً في الموارد المعدنية، ولهذا فالمعادن تسهم بنسبة قليلة في الإنتاج القومي. وأهم المعادن في تركيا الكروم، حيث تمثل تركيا ثالث دول العالم في إنتاجه. لكن تركيا بلد غني بالزراعة لخصوبة الأراضي وتنوع المناخ، وغنية بالثروة الحيوانية ولهذا تركز على التعليم الفني. وتركز تركيا على التنمية الصناعية لتحقيق توازن اقتصادي وتزايد في الدخل القومي والفردي. وهنا تقوم الجامعات بدور مهم في تزويد خطة التنمية الاقتصادية بالكوادر والفنيين اللازمين لإنجاحها. سادس عشر: بقيت نقطة مهمة وهي موقف التعليم من الدين والثقافة الاسلامية. فقد كان الدين هو العامل الأهم في حياة الامبراطورية العثمانية على مدى ثمانية قرون، وذلك حتى قيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923م، والمسلمون يمثلون الغالبية العظمى من عدد السكان وغالبيتهم على المذهب السني. هناك نسبة ضعيفة من العلويين في شرق تركيا (الأكراد)، وأقليات من الأرمن واليهود. وأعلن أتاتورك تركيا دولة علمانية لا دين لها عام 1924م حيث تم إلغاء الخلافة الإسلامية، وإلغاء وزارة الأوقاف، والمحاكم الشرعية، وكل مظاهر الالتزام الديني، وكذلك تم إلغاء الأذان باللغة العربية، واستخدام التاريخ الهجري، وغيرت أحكام المواريث حيث ساوى القانون بين الذكور والإناث. وجعلت الحكومة العطلة الأسبوعية يومي السبت والأحد بدلاً من الجمعة، ومنعت الموظفين من أداء صلاة الجمعة، ومنعت لبس العمامة والزي الإسلامي، ومنع ارتداء الحجاب، وتم إلغاء الطرق الصوفية والاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، وتم إلغاء الكتابة بالحروف العربية، وتم الأخذ بالنظم الغربية في كل مظاهر الحياة الاجتماعية. صحيح قاوم الشعب وما يزال، لكن هذه التغيرات فرضت بقوة الجيش. وظل هذا الوضع إلى عام 1985م حيث بدأت بعض المرونة في السماح ببعض المظاهر الإسلامية وبعد أكثر من نصف قرن على سيادة وفرض العلمانية في تركيا تمسك الشعب بدينه، وكما يقول أبوالحسن الندوي: أصبحت تركيا تعيش على هامش الغرب، فلا هي أصلت هويتها الإسلامية، ولا هي لحقت بالغرب في حضارته وتقدمه العلمي والاقتصادي. سابع عشر: تغير الأمر كثيراً في مختلف المجالات التربوية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الفوز في انتخابات عام 2002م، وأعاد تأكيد نجاحاته عام 2007م. وقد بدأ هذا التوجه منذ عام 1960م مع نجم الدين أربكان الذي أسس الرؤية القومية والتي أصبحت حزب النظام الوطني عام 1970م، ثم حزب السلامة عام 1972م، ثم أصبح حزب الرفاة عام 1983م. وهذا الحزب هو الذي فاز بأغلبية المقاعد النيابية في انتخابات عام 1995م، وتم تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة نجم الدين أربكان نفسه. وبعد فترة ونتيجة للضغوطات العلمانية من جانب المؤسسة العسكرية تم حل حزب الرفاة، واستبدل بحزب الفضيلة الذي تم حظره أيضاً عام 2001م. وقد نشأ حزب وسطي سياسي متوازن وهو حزب العدالة والتنمية، وصل إلى ما يطلق عليه البعض (خلطة النجاح التركية) في مواجهة التيارات العلمانية التي يحميها الكثير من الجهات وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية. ثامن عشر: والجمهورية التركية تتمتع بنظام ديمقراطي شبيه بالديمقراطيات الغربية تفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية خاصة بعد تطبيق دستور عام 1982م، وبعد سنوات من الحكم العسكري وعلى الرغم من فرض العلمانية إلا أن العقيدة والأخلاق والثقافة الإسلامية متعمقة في نفوس الأتراك وفي قلوبهم وعقولهم. ويعمل حزب العدالة والتنمية دوراً حكيماً في ضمان الاستمرار في الحكم والحفاظ على أساسيات الدين والاتجاه نحو العالم العربي والإسلامي، وفي نفس الوقت الاتجاه غرباً لتحقيق حلم الالتحاق بالاتحاد الأوروبي