دخلت مصر نفقا سياسيا جديدا، بالحديث عن الرئيس القادم، نظرا لعوامل طبيعية في معظمها، تتعلق بتقدم الرئيس الحالي في العمر. ولكن فكرة التوريث لم تكن فكرة سائدة في المراحل السابقة لجمهورية ثورة يوليو، ولم تظهر بأي صورة في عهد جمال عبد الناصر وأنور السادات، وظهورها الآن، يعبر عن مأزق حقيقي للجمهورية الرابعة لحركة الجيش. والمأزق نابع في الواقع من غياب آلية اختيار الرئيس القادم. فقد اختار جمال عبد الناصر خليفة له، وهو أنور السادات، والسادات بدوره اختار خليفته حسني مبارك. والآن جاء الدور على مبارك كي يختار خليفته. ونلاحظ منذ البداية عدم إقدام حسني مبارك على اختيار خليفة له. خاصة وأن اختيار نائب للرئيس في المراحل الأولى من الحكم، لا يكون اختيارا للخليفة، بل مجرد اختيار لنائب قد يكون مرشحا للاستمرار في منصبه أو يتركه. وهذا ما حدث مع الرئيسان جمال عبد الناصر وأنور السادات، فكل منهما اختار أكثر من نائب في فترات مختلفة، وكان النائب الأخير هو الذي يتولى الرئاسة. صحيح أن اختيار أنور السادات لحسني مبارك كان بهدف أن يكون الرئيس التالي له، أما اختيار جمال عبد الناصر لأنور السادات كان بسبب ظروف سياسية مرحلية. مع الرئيس حسني مبارك اختلف الأمر، فهو منذ البداية لم يرحب بوجود بديل له، ربما عن قناعة بأن وجود البديل لا يؤمن استمراره ويسهل عملية التخلص منه، سواء بعوامل داخلية أو خارجية. لهذا قام توجه حسني مبارك على فكرة عدم وجود بديل له، حتى يكون استمراره في الحكم آمن. ولكن بحكم العوامل الطبيعية أصبح من الضروري وجود بديل. والحاجة هنا ترتبط بالنخبة الحاكمة التي تحتاج لوجود البديل حتى تؤمن استمرارها بعد مبارك الأب، والحاجة أيضا بالنسبة للرئيس ليؤمن وجوده ومكانته إذا أصبح الرئيس السابق، ربما لأسباب صحية. وفي الوقت الذي تطالب فيه كل القوى السياسية بالدخول في عملية إصلاح سياسي شامل، تجد نفسها أمام قضية البديل، وهو الابن على الأغلب، لأن البدائل الأخرى، إن وجدت، فلا ظهور لها على المسرح ولا حديث حولها. وكل القوى السياسية متفقة على محاربة فكرة التوريث، لأسباب أنها تمثل سابقة تاريخية تؤدي إلى ضرب النظام الجمهوري، وتحويل عائلة الرئيس إلى العائلة المالكة. كما أن التوريث أساسا يتناقض مع الإصلاح السياسي، لأنه يعني الاختيار المسبق لشخصية الرئيس القادم، بغض النظر عن الإرادة الحرة للجماهير، وبدون مشاركة حقيقية من القوى السياسية المختلفة. ولهذا يصب التوريث في خانة استمرار النظام الاستبدادي القائم على سيادة نخبة حاكمة بدون منافس حقيقي لها. وكأن من يريد الوصول للسلطة، عليه أن يلتحق بالنخبة الحاكمة، فإذا قبل عضوا فيها، أصبح من أفراد السلطة. لهذا لا يعول أي تيار سياسي على حدوث الإصلاح السياسي مع حدوث التوريث. وإذا نظرنا لعملية التوريث نفسها، سنجد أن فكرتها تقوم على تحييد دور الجماهير، وبالتالي تقوم على أنقاض الحرية السياسية، ولهذا لا نتوقع حدوث إصلاح سياسي حقيقي من رئيس يفرض على الناس، لأن الإصلاح السياسي الحقيقي يقوم على الحرية السياسية في المقام الأول، بما يعني حرية الناس في اختيار الحاكم والحكومة. فإذا أعطي الشعب حريته السياسية من قائد فرض عليه، فيمكن ترجمة هذه الحرية في فعل رافض لهذا الحاكم. فمن يأتي ضد رغبة الناس، لن يؤمن لهم حريتهم السياسية. ولكن في المقابل سنجد موقفا أكثر تعقيدا يواجهه الرئيس مبارك، فإذا تم الإصلاح السياسي كما تتصوره المعارضة، يمكن أن تبعد النخبة الحاكمة عن السلطة، بما فيها الرئيس نفسه، أو قد يضطر الرئيس لترك منصبه لأسباب صحية، فيأتي رئيس بعده من نخبة سياسية جديدة، ويتم إسقاط النخبة السياسية الحالية. وعملية تغيير النخبة السياسية المسيطرة على الحكم، والتي مثلت نخبة الاستبداد السياسي والفساد، سيؤدي إلى الحساب الصعب. تلك هي مأساة الإصلاح السياسي في مصر، فالنخبة المسيطرة على الحكم لا تستطيع إجراء الإصلاح السياسي المطلوب دون أن تتعرض للمخاطر الشديدة، هذا إذا رغبت أساسا في الإصلاح. لهذا نرى أن المجموعة المحيطة بجمال مبارك، لا تمثل في الحقيقة نخبة للإصلاح، بل هي نخبة جديدة أو شرائح جديدة من النخبة الحاكمة. ولهذا عندما راهن بعض المفكرين على نخبة جمال مبارك، اكتشفوا أن الأمر لا يتعلق بالإصلاح السياسي على النهج الليبرالي، قدر ما يتعلق بتجديد النخبة الحاكمة كي تستمر في الحكم. وعملية التوريث في مضمونها تتعلق بتأمين استمرار النخبة الحاكمة في الحكم، خاصة نخبة رجال الأعمال الجديدة. ولهذا يتم التخلص من بعض رموز الحرس القديم، تأمينا لبقاء الحرس الجديد في الحكم. ومن هنا تصبح مسألة الإصلاح خارج الإطار، بل هي الفعل المؤجل، لأن الإصلاح لا يعني استمرار النخبة الحاكمة، بأي شريحة كانت، ولكن يفتح الباب أمام تدوير وتبديل النخبة الحاكمة في مصر. وحتى يرتبط التوريث بالإصلاح، لابد من جعل الإصلاح شرطا للتوريث، ومقايضة النظام على الموافقة على التوريث مقابل إجراء إصلاح سياسي حقيقي متفق عليه قبل عملية التوريث. وهذا لن يتم إلا إذا أدرك النظام بأن عملية التوريث قد تقود لحالة تمرد وعصيان سياسي شعبي، أما إذا تمكن النظام من عملية التوريث بدون تهديد شعبي، فلن يقدم على الإصلاح. [email protected]