طوال قرون عدة ، ترسبت فى لاشعور المصريين مشاعر متناقضة نحو فئتين من الجنود : فئة الجند الذين يدفعون عن البلاد غوائل الاعتداءات الآتية من خارج ،ويصونونها من كل عدو متربص ،وخاصة منذ تلك العهود السوداء التى حفلت بإغارات متعددة من قِبل الاستعماريين الأوربيين الذين يعرفهم الناس باسم " الصليبيين " ، ومن ثم حظى الجند المدافعين بالحب والتقدير، ثم عدو العصر ، الصهيونية النازية . أما الفئة الأخرى فهى "جند السلطان" المختصين بما كان يسمى الأمن الداخلى ،وهؤلاء زرعوا فى قلوب الناس خوفا وريبة وتوجسا ،وخاصة فى تلك العهود التى اتسمت بالجبروت والاستبداد والطغيان ،والفقر ،وأظهر العهود الممثلة لذلك :العقود الأخيرة من عهد المماليك ،وفترات من عصور أسبق ،ومن عهود لاحقة . لكن هذا لا ينفى أن الفئة الأولى ، أحيانا ما كانت تحظى بنفس المشاعر غير الودية من المصريين ، عندما كان يثور نزاع بين الطوائف الحاكمة حول السلطة ، أو يجىء جند نظام من المسلمين من خارج يريد أن يغتصب السلطة ، كما كان يحدث عند تقلب مصر من نظام إلى آخر . كان المصريون معذورون فى مشاعرهم السلبية ، حيث كان يلقون أشد ما يمكن تصوره من المعاملة القاسية ،والامتهان ،والاستغلال ،وكأنهم شريحة أخرى من الشرائح الحيوانية التى يستخدمونها فى الحقول ،وأطراف المدن ،ولذلك – فيما تعيه ذاكرتى أيام الطفولة – كانت أمهاتنا ، عندما تعييها الوسائل فى سعيها كى يسمع الأبناء كلامها ، أن تصيح بكل منا " حاجيب لك العسكرى " أو " اوع العسكرى " ، فإذا بالرعب يملأ قلوبنا أطفالا ،ونسارع إلى الطاعة كى لا نقع فى قبضة العسكرى . وشاع أيضا بين الناس ، إذا رأوا شرطا قادمين ، أن يقولوا " الحكومة جت " ، حتى لو كان القادم شرطى واحد ، مما يعكس وعى المصريين ، بأن الشرطة تمثل الحاكم وسلطته وجبروته ، بينما المفروض حقا أن يكون جنود الشرطة هم جنود الشعب لا جنود السلطة ، أو بمعنى أصح ، الشعار الذى كان يعلو مداخل أقسام الشرطة ومراكزها " الشرطة فى خدمة الشعب "! حيث أصبح شعارا وكأنه " قبة " من غير شيخ يرقد تحتها ! وفى أواخر العهد الملكى ظهرت لنا فئة أخرى من فئات الأمن الداخلى ، كانت تسمى " البوليس السياسى " ،وهذه بصفة خاصة كانت مصب اللعنات ومشاعر الكراهية ، لأنها بالفعل كانت سياط السلطة الاستبدادية ، لحماية الطاغية الذى يتربع على كرسى السلطة ،وكان يعوض ما يحدث للمعتقلين من قِبل هؤلاء ، أن " سمعتهم " كانت تعلو كثيرا فى أعين الناس ،وينظرون إليهم باعتبارهم وطنيين ،ومجاهدين أبطالا ، رغم البيانات المعتادة الرسمية التى تصفهم بأنهم " عملاء " ، تارة ، ومجرمين ، تارة أخرى ،ويريدون خراب البلاد . ومع مر السنين ، لم تعد مثل هذه البيانات الرسمية تؤثر فى الناس ، فالحِس الشعبى كان يعى جيدا أن هؤلاء المعتقلين ، هم المدافعين الحقيقيين عن مصالحهم . وعندما قامت ثورة يوليو 1952 ، حدث تحول جذرى فى مشاعر المصريين تجاه العسكر ، حيث بدوا فى صورة منقذى البلاد من الطغيان والفساد ،وأصبحت البدلة " الكاكى " أملا لدى آلاف الشباب المصريين ،حتى أنى لأذكر ،ونحن فى الصف الأول الثانوى – نظام قديم ،وهو ما يوازى الصف الثانى الإعدادى الآن – عندما أعلنوا عن تكوين " حرس وطنى " فى خريف عام 1952، داعين الطلاب إلى التطوع فيه ، أسرعت إلى ذلك ، وكانت أسعد لحظات عمرى فى ذلك الوقت ، عندما لبست " الكاكى " ، بل وصل الأمر بى أن أنظر إلى نفسى فى المرآة ،وأنا أدور يمينا ويسارا ،تيها وفخرا ، وكأنى أصبحت المارشال " مونتجمرى " ، قاهر القوات الألمانية فى شمال إفريقيا بقيادة ثعلب الصحراء " روميل " ، فى أواخر الحرب العالمية الثانية . لكن التطورات التى شهدتها ثورة يوليو أبرزت للناس سطوة شرطة " خفية " ، تلبس مثل ما يلبسون ، لكنها ، كما قال الروائى الشهير "جمال الغيطانى" بعبقرية تعد من " البصاصين " الذين أصبحت مهمتهم الحقيقية هى حماية " النظام " ، بينما تركزت مهمة الشرطة العلنية ،حقيقة ، فى حماية " الناس " ممن يعتدى عليهم أو يضر بمصالحهم . وتمر السنون ، فتصبح مصر – دوليا – فى حالة " سلام " مع العدو الصهيونى الذى تمحورت حوله مشاعر العداء منذ عام 1948 ، عندما اغتصب أرض فلسطين ،واعتدى على مصر عامى 1956، 1967 ، قاتلا آلافا من أنبل وأغلى الرجال فى مصر ، ومدمرا للكثير من مواقع الإنتاج والخدمة ،وتصور الناس أن ما كان ينفق فى هذا الاتجاه ، سوف يوجه كثير منه للتنمية وإنعاش الاقتصاد . وفى عام 1986 ، على وجه التقريب ، أثرت على صفحات جريدة الأهالى ، فى عهدها الذهبى الوطنى السابق ،بعض الجوانب التى تدور حول تواجد قطاعات عسكرية كثيرة فى قلب القاهرة ،وما أسميته " الامتيازات المدنية للعسكريين " ، وثارت حملة قاسية ضدى فى بعض الصحف الحكومية ،وأثار مقالى عاصفة من الكتابات الأخرى ، لا أظن أنها يمكن أن تتكرر اليوم ، على الرغم ، من أن هامش الحرية الآن أعلى كثيرا مما كان عام 1986.وأشار الراحل الدكتور أحمد عبد الله فى رسالته للدكتوراه إلى أننى أول من أثار هذه القضية على صفحات الصحف. لكن الأخطر بالفعل ، هو ما حدث لقوات الأمن الداخلى من تطور لافت للنظر ، فأصبح لدينا فئتين مرئيتين : إحداها ، بدأ فى أواخر الستينينات ، عندما حدثت مظاهرات للمرة الأولى فى زمن عبد الناصر ، فى شهرى فبراير، وأكتوبر ،وعرفت هذه " بالأمن المركزى " ،وظيفتها الأساسية " حماية النظام الحاكم " ،وكان من المعتاد ألا تظهر أمامنا إلا إذا حدث ما يسمونه " شغب " ، لكنها ،ومنذ سبتمبر عام 2000 ، عندما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى ،وكانت شعوب المنطقة ما زالت حية المشاعر العروبية ، خيف من مظاهرات وانتفاضات تندلع من الجامعات ، بدأت هذه الشرطة " تقيم " بصفة مستمرة بجوار أسوار الجامعات وكلياتها ،ومن ثم ، يرى آلاف الطلاب والأساتذة ، فى كل صباح ،وهم يدخلون ليدرسوا ، " العين الحمرة "؛ فالجند على أعلى درجات القوة البدنية والتسليحية ،والقلوب لابد أن تكون قاسية وغليظة ،ولا سبيل للتفاهم ، إلا الضرب ،وبكل قسوة ،وفى أى اتجاه،والنظر إلى كل محتج على وضع داخلى ، عدو شرير! ثم بدأ التواجد يمتد ، ربما منذ عام 2004 ، عندما بدأ نشاط جماعة " كفاية " ،وبدأت شوارعنا تعرف لأول مرة ،وبصورة تكاد تكون مستمرة ، الحركات الاحتجاجية ،واشهرها حركة القضاة العظيمة ،وغيرهم ،ومن هنا أصبح من المعتاد أن نرى عشرات السيارات المصفحة ، فى قلب المدينة ، منتشرة فى شوارع الغضب الشعبى،,معها مئات الجند المدججة بأغلظ أدوات القهر والضرب . وهناك فئة مرئية أخرى للشرطة ، شهيرة ، ونراه فى معظم الأنحاء ...الغريب ، أن هذه الفئة المخولة بحماية الناس ، تستطيع أن تقول أن الغالبية منهم ممن يدخلون فى باب " الغلابة " حقا ،وأشهرهم " عسكرى المرور" ، مما يضطرهم – أحيانا -إلى أن يسعون لتعويض حالهم المادى ، بطرق معروفة ومشهورة .لكن ، الجديد ، الذى ظهر فى السنوات الأخيرة ، من قِبل شريحة أعلى ،من هذه الشرطة ،هذه الحوادث المتكررة من الاعتداءات الوحشية على أفراد من الناس ،ربما " مظلومين " ،وربما لا يستحق ما ارتكبوه من ذنب أن يصل الأمر بهم إلى الضرب المبرح ،والسحل ،والإصابة بالعاهات ، بل وأحيانا ما ينتهى الأمر بالبعض إلى مفارقة الحياة ،ولعل ما يصور مركز هؤلاء ما أطلقه الناس من لقب " باشا" على كل منهم ،وكأنهم بالفعل حلوا محل فئة الباشوات أيام زمان ، أصحاب القوة والجبروت والتسلط! أما الشرطة غير المرئية ، فلأنها كذلك ، يصعب الحديث عن أنواعها وهولها وانتشارها ، لكن يكفى أن نستذكر آثارها ، الذى تصوره كلمة كاتب وطنى ، فى عهد المفتش إسماعيل صديق ، زمن الخديوى إسماعيل ، حيث وصف حالة الذعر الذى أثارته شرطة السلطة الظالمة بقوله " ..حتى أن أعظم عظيم فيهم ، كان يخشى أن يُحَدث نفسه ، فى سرير نومه ، بشىء من دواعى الإصلاح ، خوفا من الطيف أن يَنُم عليه " !!مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الذى دفع الكاتب إلى قول هذا عن عهد إسماعيل يتضاءل كثيرا إذا قورن بما يحدث الآن ، حيث أعطى التقدم التكنولوجى فرصا لا تصل عقول أمثالنا إلى تصورها ، بطشا ، وتصفية ،وتصنتا ،وأحيانا " صناعة الاتهامات " بالصوت ،والصورة ،والوثائق"... ترى : كم عدد كل هؤلاء من أفراد الأمن الداخلى ؟ وكم يُنفق عليهم ؟ لا أحد منا يمكن أن يعرف ، لكن معظمنا يعلم علم اليقين ، أن نصف هذا ، لو أنفق على التعليم ،والصحة ،والغذاء :لكل الناس ،بالعدل، فسوف تخف الأعباء التى تتطلب كل هذه الجيوش الداخلية ، وتبرز المقولة الشهيرة التى قيلت لعمر بن الخطاب : حكمت ، فعدلت ، فنمت ، يا عمر...!