كان الجمعة الماضي 10 ديسمبر 2010 اليوم الاستثنائي الثاني في تاريخ جائزة نوبل للسلام خلال 109 أعوام هى عمر أيقونة جوائز نوبل . ففي هذا اليوم لم تسلم الجائزة الى "ليوتشياو بو" الفائز بها أو من ينوب عنه لأنه يقبع خلف القضبان في احد السجون الصينية, وزوجته نقلتها السلطات قسرا الى مكان مجهول .وضعت لجنة نوبل في قاعة الاحتفال ببلدية أوسلو بالنرويج كرسيا شاغرا للمناضل الصيني وعلقت صورة كبيرة له, فكان حضوره الرمزي ربما أكثر تأثيرا مما لو كان بالجسد. اليوم الاستثنائي الأول كان عام 1936خلال الحكم النازي في ألمانيا حيث لم يتمكن داعية السلام " كارل فون اوسيتزكي" من تسلم جائزة السلام لأنه كان مسجونا في احد معتقلات التعذيب. كلاهما إذن الصيني " ليو" و " الألماني " كارل " مناضلان ضد الاستبداد , كلاهما داعيتان للحرية والديمقراطية , كلاهما تجاسرا وواجها نظامين يحكمان شعبيهما بالقبضة الحديدية فكان مصيرهما سلب حريتهما. النازية كان مصيرها المحتوم السقوط, لكن بعد أن جلبت للألمان والأوروبيين والعالم كله خرابا ودمارا غير مسبوق, وقد ثبت أن شخصا ألمانيا اسمه " كارل فون اوسيتزكي" كان ذا رؤية استشرافية صائبة لخطورة النازية ودموية وجنون من يحكمون ألمانيا باسمها . وحتما ستثبت الأيام أن " ليو تشياو بو" كان صائب النظر وعلى حق في المطالبة بالديمقراطية والحرية للشعب الصيني , فالحرية حق إنساني طبيعي لابد أن يسترده كل شعب حرم منه بقوة السلطة أو بسلطة القوة. فهل حصول " ليو" على نوبل هى نبوءة أخرى من لجنة منح الجائزة بان الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في طريقها للزوال الكامل, لكن من دون أن تجلب حروبا أو كوارث على العالم كما فعلت النازية؟. دوما, جائزة السلام هى أكثر جوائز نوبل إثارة للجدل والأزمات بين اللجنة التي تمنحها وبين الدول التي يفوز احد أبنائها بها حيث يحصل عليها غالبا من هم على غير هوى الحكومات , وهى هذا العام أثارت غضبا عارما لدى السلطات الصينية, ومنذ إعلان فوز" ليو " في 28 أكتوبر الماضي وحتى حفل توزيع الجوائز 10 ديسمبر, والصين لم تتوقف عن كيل الاتهامات للجنة , واعتبار ماجرى مؤامرة غربية عليها, وعودة لمنطق الحرب الباردة ,وقد قامت بكين بتحريض دول العالم على مقاطعة الحفل, وتهديد من يشارك بعقوبات, فضلا عن سحب سفيرها من النرويج. الصين أمه المليار وثلاثمائة مليون نسمة, وثاني أو ثالث اكبر دولة في العالم من حيث المساحة, وصاحبة ثاني اكبر اقتصاد عالمي بعد الولاياتالمتحدة , واكبر دولة مصدرة في العالم , تهتز الأرض من تحت أقدامها بسبب مواطن صيني واحد فقط حصل على جائزة دولية . والمدهش أن هذا المواطن ليس فارا الى الخارج, إنما هو في قبضة النظام الشيوعي, حيث يقبع في سجونه بلا حول ولا قوة له, ومع ذلك فانه ومنذ حصوله على نوبل وهو يمثل مصدر قلق بالغ للنظام, لدرجة فرض رقابة على مواقع الإعلام الأجنبية وعبارة "كرسي شاغر" و"أوسلو" وعلى برامج تليفزيونية لمنعها من الحديث عنه أو عن الجائزة.فهل شخص واحد فقط يمكن أن يقض مضجع من يحكمون بالحديد والنار؟.وهل شخص مسلوب الحرية يمكن أن يهدد عروش من يسيطرون على كل وسائل القوة؟. وهل شخص واحد سلاحه الوحيد الفكر والنضال السلمي يمكن أن يجعل دولة نووية تملك اكبر جيش بالعالم ترتجف من أفكاره ودعواته لنشر الحرية في بلاده؟ . النظام السياسي الصيني منذ انتفاضة الطلاب في ميدان السلام السماوي عام 1989صار أكثر تشددا تجاه قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفرض الرقابة والقيود, ولا أدري هل يتوق الشعب الصيني للحرية أم انه يكتفي بالخبز وحده؟. " ليو" يطالب بالديمقراطية وهو مقابل توقيعه على وثيقة بهذا المطلب النبيل محكوم ب 11 سنة سجنا, ويوصف في بلاده بأنه مجرم مثلما حدث مع الألماني " كارل فون " ومثلما حدث مع" نيلسون مانديلا " أشهر سجين ومناضل سياسي في العالم والذي أصبح رمزا عالميا على إرادة التحرر وكان يوصف بأشنع الصفات من النظام العنصري في جنوب أفريقيا لكنه هزم هذا النظام سياسيا ومعنويا وخرج من السجن إلى قصر الحكم ومثلما حدث مع كثيرين غيرهم خرجوا من السجون الى قيادة بلدانهم . الصين تدعم نظم شمولية على شاكلتها, تدعم نظما خارج التاريخ. أسوأها في الانغلاق كوريا الشمالية وميانمار" بورما سابقا " وكوبا, النظم الثلاثة التي تفقر شعوبها تكفي للتدليل على أن نهج الصين السياسي يسير عكس ما يجب أن تكون عليه البشرية الآن من نزوع نحو قيم الحرية والديمقراطية والإصلاح, فالاتحاد السوفيتي معقل الاشتراكية وحكم الحزب الواحد في العالم قد انهار وتفكك وتخلت روسيا والبلدان التي كان يتشكل منها الاتحاد عن النظرية الاشتراكية وأصبح الحزب الشيوعي في المعارضة الآن بعد أن كان الحزب الوحيد الذي يحكم قوة عظمى بالقمع وتكميم الأفواه, واتجهت روسيا نحو الليبرالية السياسية والاقتصادية, وأتصور أن التحول السياسي مسألة وقت في الصين التي أنقذت نفسها مؤقتا بالانفتاح الاقتصادي على النمط الغربي وإن كانت تسمي ذلك اشتراكية السوق أو الاقتصاد المختلط كنوع من التمويه لعدم الاعتراف صراحة بان التطبيق الاشتراكي لم يحقق النجاح كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق بعد أن ثبت أن الشيوعية ليست النظرية المثالية التي تبني المدينة الفاضلة. والتحول الاقتصادي الصيني هو اعتراف بعجز الاشتراكية عن تحقيق الرفاهية للشعب منذ تطبيقها مع قيام الجمهورية على أيدي ماوتسي تونج في عام 1949أما في الجانب السياسي فإنها مازالت منغلقة حيث حكم الحزب الواحد والرقابة على التفكير الحر الخلاق وفرض أسوار حديدية على الشعب لكن في زمن العولمة وثورة الانترنت وتكنولوجيا الاتصالات فان الأسوار لابد أن تتهاوى مهما ارتفعت, والقيود لابد أن تنكسر مهما كانت قوية, ويكفي أن مواطنا واحدا محبوسا تسبب في زلزال هز كيان الحزب الشيوعي . وكما يسبب سجين الحرية الصيني إزعاجا, فان واحدة من البلدان التي تسير في فلك التنين الأصفر وتعيش خارج التاريخ تميد الأرض فيها من تحت أقدام العسكر بسبب سيدة نحيلة الجسد ذات وجه باسم وصبوح لأنها تطالب بالحرية لشعبها, وتسعى لتحرير هذا الشعب المسكين من قبضة المستبدين الذين أعادوا بورما أو ميانمار حاليا قرونا الى الوراء من البؤس والفقر والتخلف. هذه السيدة هى " اونج سان سوكي " التي رفع العسكر الإقامة الجبرية عنها منذ أيام بعد 14 عاما من فرضها عليها في منزلها. امرأة وحيدة تخيف العسكر بسلاحهم الثقيل وبأسوارهم العالية التي يفرضونها حول بلدهم وحول كل مواطن لمنعه من التواصل مع العالم الخارجي." اونج سان سوكي " ابنة مناضل بورمي تسطر تاريخا من الشجاعة النادرة أمام غلاظ القلوب والعقول . سجناء الحرية والضمير قابعون وراء القضبان في العديد من دول العالم غير الحر , وقد لانسمع بأنات بعضهم. لكن مهما طال ليل السجن فان النهار آت, والحرية التي هى قيمة إنسانية وحق فطري لكل شخص على وجه الأرض لابد يوما أن ترفرف على البلدان المحرومة منها . انظر الى الهند المجاورة للصين, وهى عملاق اقتصادي ناهض , تتمتع بديمقراطية فريدة على مستوى العالم, فهى مجتمع يضم خليطا متنوعا من الأعراق والأديان والقوميات واللغات يشكل فسيفساء اجتماعية قل نظيرها في العالم, لكن هذا التنوع المدهش الذي يتآلف تحت غطاء الديمقراطية الحقيقية أكسبها ثراء وقيما إنسانية وحضارية عظيمة, كما اكسبها احترام العالم أجمع, لذلك لاتجد سجناء رأي وضمير في الهند, لأن لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه بكل الوسائل السلمية المشروعة, هى ديمقراطية حقيقية وليست مزيفة كالتي تدعيها بلداننا. الهند نموذج كامل الأوصاف للنهوض الاقتصادي العملاق وقد بدأت تفرض حضورها ووجودها القوي على خريطة التأثير العالمي لكن ما يميزها عن الصين العملاق الآسيوي الآخر هى ديمقراطيتها التي يبلغ عمرها 60 عاما الآن, فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان . لابد من الخبز والحرية معا. صحفي مصري