حينما قيل لي إن سمو الشيخ حمد أمير دولة قطر زار منزل مدرس مصري كان يعلمه في المرحلة الابتدائية؛ دون زفة، ودون فلاشات، ودون ضوضاء إعلامية، ودون أن تسجل ذلك قناة الجزيرة، والسي إن إن، وسي بي إس، وفوكس، و.. و.. و.. لم أندهش كثيرًا، ولكن دعوت له كثيرًا، فهو رجل إنسان، والشواهد على ذلك كثيرة، رغم أننا نشهد في عالم السياسة أناسًا بلا قلوب، ولا مشاعر، ولا وفاء، ولا آدمية في كثير من الأحيان! نشهد أناسًا كالحواة يبلعون الإبر والسكاكين والخناجر والحنشان، ويكسرون عظم كل من يقف في وجوههم، ويستمتعون بالدم، والقتل، وتجفيف منابع كل شيء، والأراضي المحروقة بما عليها ومن عليها.. وحينما فازت قطر بتنظيم كأس العالم لم أندهش كثيرًا، فالرجل لاعب سياسة من الطراز الأول، تشهد له إنجازاته الدبلوماسية، ونقلاته الكبيرة المفاجئة التي عقمت أن تقوم بها دول كبرى في المنطقة، تحمل ميراثًا من الجعجعة والعنترية المتورمة، وتطلق الشعارات الكبيرة بالتقدم والتطور، ولم تصدق إلا في أنها تتطور إلى الوراء.. بعيدًا عن أسباب الحضارة والحريات والنظام والعقل! موقفان في السياسة والإنسانية أقف أمامهما قليلاً! والمسألة هنا – من وجهة نظر الإسلام - لا تنفصل ولا تتضارب، وأتمنى أن يمتلئ عالمنا التعيس بساسة ذوي قلب، أو بقلوب تحسن سياسة الأمور! رغم أن الشائع الذي صار يشبه الحق أن السياسة لعبة شرسة، قذرة، بلا قلب، ولا روح، ولا دين ولا آدمية! لم أندهش حين علمت أنه ذهب خصيصًا للقاهرة، لتعزية أسرة مدرسه رحمه الله، وحادث ابنه الدكتور صلاح، وبادله بعض الذكريات! فله في ذلك تجارب وسلوكيات لافتة مثيرة للإعجاب والعجب! وأذكر أنني كنت كتبت مرة بكثير من الغيظ حين توفي الشيخ الداعية العظيم أحمد ديدات، متحسرًا ممتلئًا، ألمًا لأنه مات في جنوب أفريقيا، وكأنه أرنب أو دجاجة، لا يفطن لموتها المسلمون المحبون لدينهم، لأفاجأ بالصحف القطرية تعرض صور نجل سمو الأمير في منزل الشيخ الفقيد أحمد ديدات، يقدم واجب العزاء! ليكون – ربما – الزعيم العربي أو المسلم الوحيد الذي فعلها، تقديرًا من كبير لكبير! وكانت لفتة (أميرية) كما كتبت آنئذ، لا يحسن فعلها إلا نبيل كريم، لا تغلب السياسة عنده الأخلاق، ولا تسلبه الأخلاق يقظة السياسي وبصيرته! وذهبت ذات مساء لأقدم واجب العزاء في والد شخص أحبه، ولم يلفت انتباهي شيء غريب في المكان سوى بعض سيارات الشرطة، وكان هذا عاديًّا لأن ابن المتوفى شخصية أمنية، فما كدت أدوس أول سلمة نحو مجلس العزاء حتى وجدت الأمير نازلاً فتنحيت حتى مر، وأنا مندهش، إذ لم (يشخط) فيّ أحد، ولم ينبهني أحد، ولم يجذبني أحد، ولم يطرحني على الأرض أحد، ولم يعتبرني أحد إرهابيًّا متآمرًا، رغم لحيتي وهيئتي، ولم يفرغ في جسدي إرهابيون رسميون رشاشاتهم، بل نزل وصعدت، وسلمت وعزيت، وعدت إلى داري عزيزًا آمنًا كريمًا كما أنا! وحين تبنت قطر مؤتمر القمة للوقوف مع أهل غزة أيام حصارها المشؤوم، كان الشيخ حمد يدور بين زعماء مترهلين، إذا دخل هذا خرج هذا، وإذا قبل هذا رفض هذا، فزفر على التلفزيون زفرة عجيبة، سمعها العالم كله، قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل، وحين رنت في أذني قلت: سبحان الله؛ هذا كلام لا سياسة فيه، بل إحساس يقوله إنسان ذو مشاعر وحرقة، قبل أن يكون سياسيًّا، فقلب الرجل محترق على غزة حقًّا لا كلامًا! وكم تواتر على ألسنة الثقات أن الرجل بسيط، سمح، يخالط الناس إن أراد؛ دون استعلاء، ولا إزعاج، ولا تنفير، فربما حلا لسموه أن يمر بالسوق، ويدخل مطعمًا من المطاعم (الشعبية) فيفاجأ به أصحاب المكان وهو يشير إليهم أن يتصرفوا بشكل طبيعي، ويقضي وقته بالمكان ببساطة وتلقائية وسماحة وسخاوة نفس ويد! وهذا منحه شعبية هائلة وحبًّا جارفًا حتى أسماه شباب قطر: فخر العرب و(العود) أي رجل قطر الأكبر، وأمير القلوب، وأمير الشباب، وغير ذلك من الألقاب، لما رأوه من أخلاقه، وبساطته، حين يجاملهم بنفسه في أفراحهم وأعيادهم، وحين يسير بتلقائية في الشوارع بينهم، يلاطف، ويتكلم، ويدقق، ويهتم، ويتابع! وكم تواتر على الألسنة ما يفعل من الخير، وأعمال البر، والاهتمام بالناس؛ خصوصًا من أبناء شعبه، والناس شهود الله في الأرض! وهو يقرب العلماء، ويهتم لهم، ويتابعهم، وكم عاد الشيخ القرضاوي في مرضه، واهتم بأمره، وتابع أحواله وصحته، وله في رمضان – متابعة لسنة والده سمو الشيخ خليفة - سُنة لا تنقطع منذ دخلت قطر - قبل نحو سبع وعشرين سنة - هي دعوة العلماء إلى مائدته على الإفطار، وقد تشرفت بحضور ذلك مرتين! وهو يتابع بنفسه المشاريع الكبيرة، والأشخاص الذي يهيئهم ليكونوا شيئًا مهمًّا في البلد، يتواصل معهم، ويستدعيهم، ويناقشهم، حتى أخرج شبابًا ذوي قدرة عالمية، فكم أدهشني ذلك الشاب الثلاثيني الذي أدار فعاليات الأسياد، ليخرجه للعالم تحفة باهرة مذهلة، رأى الناس إبهارها، لكنهم ما رأوا العقول الشابة المفكرة، والهمم القعساء المدبرة، والجهد المبذول، والمال المدفوع! وهاهم الشباب يقفزون ليفاجئوا الدنيا كلها بربح معركة كانت أميركا واليابان وأسترالية والكوريتان من أطرافها، ليفوزوا بالملف الساحر، أو بالضربة القاضية، وسمو الأمير بجوارهم مبتسم، كأنه ما فعل شيئًا! ورأيته يعطى الدعاة والمثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين – على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم وأطيافهم وعقائدهم - مساحة حرية أزعم أنني لم أرها في بلد مسلم آخر - وأنا أعرف العالم الإسلامي جيدًا - فها هو القرضاوي يقول ما يريد، وفيه كثير من الإحراج والمناقضة لسياسة الدولة أحيانًا، على منبر الجامع الرسمي للدولة، وفي التلفزيون، وفي الجزيرة، وفي بيته، وفي مؤتمراته، دون أن يملي عليه أحد شروطًا، أو يقول له هذا جائز وهذا ممنوع، بل إن الأمر حاصل لكل الدعاة، فلا أعلم أن داعية صغيرًا أو كبيرًا صودر لسانه، أو أسكت صوته، إلا إذا كان في ذاته غير ناضج، وغير أهل! وحسبنا شبكة الجزيرة بقنواتها منبرًا عالميًّا، وقد صدَّعت رؤوس الكبار، وسماها أحدهم (علبة الكبريت اللي قالبة الدنيا) وهددها الكاوبوي بوش بالدك والتدمير يومًا ما، بما تقدم من حقائق، وما لها من تأثير، وما تملك من (إجماع) على ريادتها، وتميزها، وجرأتها، وإبداعها الإعلامي الذي لا يتمارى فيه عاقلان! وعلى المحور السياسي والدبلوماسي فقد تبلور النهج القطري بصورة تراكمية – كما كتب الدكتور إياد العرفي - من خلال مشاركتها في جملة من القضايا التي انخرطت فيها، وهي كثيرة، من أبرزها: مساندة غزة ومؤتمر القمة الطارئ الذي كشف تخاذل العرب، وأطلق آهة الشيخ العود (حسبي الله ونعم الوكيل) والوساطة القطرية لحل الأزمة اللبنانية، والسعي لإزالة الخلاف بين الرئيس السوداني عمر البشير والدكتور حسن الترابي، إثر تصاعد المواجهة بين أحزاب المعارضة الحكومية، ورعاية المصالحة بين الرئيسين السوداني عمر البشير والأريتري أسياس أفورقي، والمساهمة في اللجنة الثلاثية الخليجية المكلفة بإيجاد آلية لحل الخلاف بين إيران والإمارات في شأن الجزر الإماراتية، ورعاية اتفاق الحكومة اليمنية والحوثيين، والوساطة لحل أزمة دارفور - وتشكيل اللجنة الدائمة لدعم القدس، بجانب تنظيم واستضافة العديد من المؤتمرات والمنتديات والملتقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على المستوى العربي والإقليمي والدولي، والتي ساهمت في ظهورها كدولة حديثة ومتطورة وجعلت من الدوحة محط أنظار العالم. لكن الضربة الأخيرة – الفوز بتنظيم كأس العالم من خلال ملف مقنع بل باهر – يعد إنجازًا لم تحلم به دولة عربية كبيرة أو صغيرة، لكن حلم قطر الكبير بتحويل الدوحة إلى منبر رياضي عالمي لم يكن مجرد حلم، بل كان رؤية طموحًا ناضجة، تملك المعطيات، وتحسب حساب المنافسة، وتخطط على مستوى أكثر من مقنع، وتقول للعالم: نحن نستطيع أن نتكلم لغة تفهمها، ونمارس دورًا ذا تأثير، فلسنا هذه دولة صغيرة – كما نوصف دائمًا – بل إننا دولة كبيرة كبيرة، نجحت في تخطي الكبار جغرافيًّا، وعدديًّا، وعمقًا، وطولاً، وعرضًا، ليس بالفهلوة والطنطنة، بل بالعقل، وحسن التخطيط، والعطاء، والجدية في السعي والحركة. لا تزال قطر بلد الأمن والأمان – وأدعوه تعالى أن يديمها كذلك – وكثيرًا ما أقول لمن أقابل من غير العرب وغير المسلمين – بحكم عملي – إن هذا البلد هو أعلى بلد في العالم في معدل الأمان، فأنا – مع إقامتي في قطر منذ ست وعشرين سنة – لم أشهد حادثًا عنيفًا واحدًا – اللهم غير بعض حوادث المرور، وأشهد أن باب بيتي لم يغلق – تقريبًا – ليلاً أو نهارًا طوال هذه المدة. هذه المعطيات الأخلاقية والسياسية والثقافية والأمنية جديرة بأن تجعلنا نعيد النظر في تقسيم الدول إلى صغرى وكبرى من زوايا جديدة، فالكبير كبير بأفعاله ومواقفه، والصغير صغير بسلبياته وتخاذلاته. وإن مساحة مصر مليون وكذا كيلو متر مربع، ومساحة السودان أكبر من مساحة قارة أوربا مجتمعة، (2.5 كم مربع/ مليونا كيلو متر مربع ونصف المليون كيلو متر مربع) ولم تصر مصر، دولة عظمى، ولم يصر السودان، ذلك البلد المنكوب كبيرًا، اللهم إلا بناسه الطيبين! مساحة السودان مثل مساحة فرنسا أربع مرات، ومثل بريطانيا 10 مرات، ومثل اليابان 8 مرات، ومثل قطر نحو مائتي مرة، وإن قطر صغيرة الحجم لكبيرة في همتها، وطموحها، وإنجازاتها، وشبابها، وهي تسعى لتضع نفسها في مصاف الدول التي تناطح على الريادة، بل الرائدة، ما يجبر كل منصف أن يهتف: يعطيكم العافية، ومزيدًا من العطاء والإبداع.. وطال عمرك يالعود!