صحيح أن التعليم أيا كانت مراحله أو أنواعه ،قائد رئيس فى مسيرة النهوض المجتمعى العام فى أى مجتمع ، وفى أى زمان ، بشرط أن يكون هذا التعليم تعليما سويا غير مشوه ، يعمل لخير عموم أهل البلاد ، لكن تظل أنواع منه وأشكال – ربما – أكثر من غيرها أهمية ومباشرة فيما يتصل بالتنمية ؛لاتصاله المباشر بمقومات التنمية . إن التعليم الابتدائى ، على سبيل المثال ، قد يبدو للبعض ضعيف الصلة بالتنمية ، فطلابه أقل من السن المسموح به فى قانون العمل ، يستحيل أن يشاركوا فى أى عمل تنموى . وفضلا عن ذلك ، فمستوى التعليم الذى يقدم لهم من البساطة إلى الدرجة التى لا يتصور هذا البعض أنه يمكن أن يكون له دور فى هذا الشأن. لكن هذا التصور غير صحيح ، ذلك أن التعليم الابتدائى يُكسب الأجيال الصغيرة " أساسيات " المعرفة والمهارات الاجتماعية والإنسانية التى نبنى عليها فيما بعد مراحل أخرى من التعليم المباشر فى التنمية ،وفى سائر مجالات وقنوات النهوض المجتمعى ، بحيث يستحيل أن تقوم لها قائمة بغير توافر هذا التعليم الأساسى أولا . أما إذا جئنا إلى التعليم الفنى ، فالأمر يختلف كلية ... إنه يتصل اتصالا مباشرا وظاهرا للعيان بجوانب العملية التنموية ، بجوانب هذا التعليم الثلاث : الزراعى والصناعى والتجارى . ومع ذلك ، فإن شئت أن تشير إلى مستوى الإهمال المزرى ..وإذا أردت أن تشير إلى سفه الإنفاق المخزى ..وإذا أردت أن تشير إلى شكل بارز من أشكال النفاق القومى ...فعليك بالتعليم الفنى القائم فى مصر ! فمنذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضى ،وفى فصل مهم من فصول كتابى الذى نشر فى سلسلة كتاب الأهالى بعنوان ( إنهم يخربون التعليم فى مصر ) ، حمل عنوان ( تعليم الفقراء )، حيث يمثل هذا التعليم صورة بشعة من صور التفاوت الطبقى الظالم فى مصر ، فلا تجد فيه ابنا لمسئول كبير أو حتى متوسط ، ولا ابنا لأصحاب الدخول المتوسطة ، فما فوقها . ورغم مرور ربع قرن على ما كتبته ، فالأمر حتى الآن كما هو ،لأن هذا التعليم ما دام هو تعليم الفقراء ، لا يحظى باهتمام أولى الشأن... وكتبنا أيضا منذ فترة قصيرة عن هذا التعليم واصفين إياه بأنه " تعليم الدرجة الثالثة " ، ملفتين النظر إلى أنه رغم أنه يضم ما يقرب من ثلثى عدد طلاب المرحلة الثانوية بصفة عامة إلا أن امتحان دبلوماته لا يشعر بها أحد ، قياسا إلى " الزفة الوطنية " التى تقام كل عام بمناسبة الثانوية العامة . ولو قد أتيحت لك خبرة مباشر أو غير مباشرة بما يجرى داخل مدارس التعليم الفنى ، لهالك الأمر ، إذ سوف ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، من غياب متكرر للطلاب ، وتزويع ،وسلوكيات تخرج عن دائرة الأخلاقيات ، لا نقول الرفيعة ،وإنما " العامة " المتفق عليها ..لا ، بل ليس من الضرورى أن تدخل لترى ما بداخل الأسوار ، قف خارج الأسوار ،وحاول أن تصدق أن من تراهم هم طلاب من شباب مصر الصغير الذين سوف نوكل إليها أمر قطاعات ومسارات من التنمية بعد تخرجهم . نقول هذا ونحن نعلم أن هناك خبرات إيجابية ، لكنها قليلة جدا ،والحكم دائما فى المسائل الاجتماعية والإنسانية يكون بالنسبة الغالبة ،ولا يعنى التعميم الكلى الشامل الدقيق . ومما يمكن أن نشير إليه نموذجا للإهمال المزرى لهذا التعليم ، أنك لو تابعت جولات شرطى التعليم منذ أن تولى أمره ،وصولاته ومعاركه الكبرى – والتى تنتهى غالبا إلى لا شئ ذى بال - فسوف تجد أنها أيضا تتركز حول التعليم العام ،وقلما تجد منها ما يتصل بالتعليم الفنى ، فى أى مجال من مجالاته . من جولات شرطى التعليم الشهيرة التى شغلت ملايين الناس ،وشاشات التلفاز ،وصفحات الصحف ( وهذا هو سدرة المنتهى بالنسبة لصاحبنا ) القضية الخاصة بما يسمى الكتب الخارجية ،وكان مبرره فى إثارة هذه الزوبعة أنه يحافظ على حق الدولة فى الملكية الفكرية ، فهل كانت المسألة مسألة مبدأ بالفعل ؟ انظر إلى جريدتى الأهرام والجمهورية – مثلا – تصدران دائما ملاحق وصفحات تعليمية بها شرح لدروس فى كل المواد ،وأسئلة وتمرينات ، وقل لى بالله عليك : أى فرق بينها وبين الكتب الخارجية ؟ لا شئ ! فهل دفعت الصحيفتان ما نادى به الوزير من حق الملكية ؟ نحن نتساءل ،ولا نقرر ،ونلح على هذه الصيغة فى الكتابة حتى يتأكد السيد الفارس المغوار أننا لا " نشكك " ،وإنما نتساءل ،وكما يقول ولاد البلد ( هوه السؤال حُرُم ؟!). لكن ، دعك من هذا وانظر إلى قضية جاء لى بها أحد الموجهين العموم بالتعليم الفنى بأوراقها وخطاباتها يكاد يصرخ : إذا كان الوزير – كما بدا لنا طوال أسابيع ماضية – حريصا على الملكية الفكرية ، ألا يكون نموذجا ومثالا للملكية الفكرية بالنسبة للمؤلفين ،وهم أصل المسألة ؟ قامت الوزارة مشكورة بقيادة عملية تطوير لمناهج التعليم الفنى الصناعى ،ووضعت له الكتب ، فى الصفين الأول والثانى ،ومن المفروض أن يشهد العام الحالى طباعة كتب الصف الثالث المطور.. لظروف لا داعى لذكر بعضها الذى عرفناها ،نركز على ما جاء فى خطاب رسمى" هام وعاجل جدا " ، كما جاء نصا ، وبتاريخ 3/8/2010 ، أى قبل بدء الدراسة بما يزيد على شهر بأيام محدودة ، يستعجل تسليم أصول الكتاب من قِبَل من كُلف بالتأليف ، مما يثير علامة استفهام عن كيفية الانتظار إلى هذا الوقت ،ولما تصل أصول الكتاب لطباعتها ، وهى صورة من صور معاناة هذا التعليم الذى لم تصل كثير من كتبه إلى الطلاب ، حتى تاريخه . وقام المؤلف (س) الرئيسى لأحد الكتب بتسليم الكتاب بالفعل وفقا للأصول المقررة ( نسخة ورقية أصلية + ثلاث أقراص – سى دى تحمل نص الكتاب ) . يبدو أن الوزارة وجدت نفسها عاجزة عن طباعة الكتاب بعد أن أوشك الشهر الثانى أن ينتهى من بدء الدراسة ، فماذا تفعل ؟ كما جاء فى خطاب رئيس الإدارة المركزية للتعليم الفنى فى 20/10/2010 : " بناء على توجيهات السيد الأستاذ الدكتور الةوزير ،وتمشيا مع سياسة الوزارة وقيادتها الحكيمة ( لاحظ هذا ) نحو ترشيد الإنفاق ،ونظرا لوجود بعض الفائض من الكتب القديمة الخاصة بنوعيات التعليم الفنى الثلاث ( صناعى – تجارى- زراعى ): تم عقد اجتماع مع السادة مديرى العموم لنوعيات التعليم الفنى لدراسة مدى إمكانية الاستعانة بالكتب القديمة فى تطبيق الخطط والمناهج الدراسية المطورة ..." وقد أشار المنشور إلى أنه تم الاتفاق على الاستعانة بالكتب القديمة ،واستخدام " سى دى " لبعض الموضوعات لاستكمال المقرر المطور . هنا تستوقفنا مسألتان : الأولى ، أن الوزارة وهى تطبع كتاب الصف الثالث العام الماضى ، كان هناك علم يقينى بأن العام التالى سوف يكون بداية لاستخدام كتب جديدة ،وبالتالى يكون هناك وعى بألا تتم طباعة نسخ تفيض عن الحاجة إلا فى حدود ضيقة للغاية ، أما أن يقال أن فائض كتب العام الماضى سوف يوزع على ألوف من طلاب العام الحالى ، فهو الأمر الذى يجعلنا نتساءل عن حقيقة سياسة " ترشيد الإنفاق " . وهل الاختلاف بسيط بين كتب العام الماضى والمنهج المطور ؟ لقد أكد لى أحد المؤلفين أن ما يزيد على خمسين بالمائة من الموضوعات قد تغيرت ، فكيف يعتمد الطلاب على الكتاب القديم ؟ هذه ناحية ..أما الأخرى ، فإن الأجزاء التى طبعوا لها " ملازم " فى البداية ، ثم طبعوا لها بعد ذلك أقراص مدمجة يستكملون بها المنهج المطور ، فإن مادتها العلمية خاصة بهذا المؤلف أو ذاك ، فكيف يتم توزيعها ،والمؤلف لم يتقاضى أجر مكافأته فى التأليف – كما أكد لى أحد كبار مؤلفى هذه الكتب ؟ وهل هذا صورة من صور حرص الوزارة على حقوق الملكية الفكرية حقا ؟ ألا يشجع هذا الوضع بعض المدرسين من ذوى الضمائر الضعيفة أن لا يعملوا على توزيع الأقراص على التلاميذ حتى يخلقوا سوقا للدروس الخصوصية ، تلك الدروس التى تندر فى التعليم الفنى ، نظرا لفقر طلابه ؟ وهل يتيح فقر الطلاب الشديد المشهور من الظروف التقنية أن يستخدموا الأقراص المدمجة بالفعل ،وبعضهم يعيش فى مناطق عشوائية ،وهى على ما نعلم جميعا من بؤس معيشة وجدب إمكانات البدائى منها قبل التقنى العصرى من حاسبات وكهرباء ؟ نتمنى أن نجد إجابة على هذه التساؤلات ، حتى نتخلص من حالة " شك " تتلبسنا الآن ،ونهرع إلى جنة " اليقين " التربوى ، مذكرين معالى الوزير بما سبق أن أكدنا عليه من أن " الشك " هو حالة يتوقف الإنسان فيها عن الحكم ، إلى أن تتوافر الأدلة النافية أو المؤكدة !!