كان جالساً أمام طاولة يتحدث عن الدعوة الإسلامية عبر ميكروفون عن بدعة استخدام الميكروفونات في المساجد التي لم تكن موجودة خلال القرون الثلاثة العشر الماضية ف"الدعوة الإسلامية انتشرت في جميع ربوع العالم علي مدي 31 قرنا ونصف دون الميكروفونات التي تعد بدعة ليست من الدين بل وأصبحت تمثل إساءة بالغة تقدم أسوأ صورة للإسلام وحضارته"، كما قال الوزير بحسب صحيفة الأخبار المصرية. أكان يقصد الوزير استخدام الميكروفانات في الصدع بالأذان أم كان يعني المبالغة في استخدامها بمناسبة أم بدون؟ لا أدري حقيقة، لكن ما أدريه أن العبارة الملتبسة التي قالها وزير الأوقاف المصري د.حمدي زقزوق بعد شهور من الإعلان عن بدء التطبيق الفاشل لنظام الأذان الموحد تثير في النفس مشاعر التوجس والدهشة أكثر مما تدعو إلى الارتياح؛ فثمة سلسلة طويلة من الصور الشائهة التي يقدمها منتسبون إلى هذا الدين الحنيف يتسنمون مناصب تمثله وتحسب عليه سواء أرضينا بذلك أم لم نرضَ، كما أن قائمة ممتدة من "البدع" و"الخرافات" تحظى برعاية وزارته وتشهدها مساجدها يخجل المرء حتى عندما يراها غير المسلمين، وتجسد صوراً مستفزة ومنفرة عن الإسلام وتقديره للعلم والعقل والتفكير السوي وهو منها برئ نراها تحصل في موالد وطقوس تجافي ما تحدث عنه الوزير عن حضارة الإسلام، لا بل تبرهن أيضاً على أن ثمة من يستغل سذاجة البسطاء في نشر صناديق النذور المجاورة لمئات الأضرحة لاسيما في أعرق وأشهر مساجد مصر التاريخية والتي يمولها فقراء تفشى فيهم الجهل وسكنتهم الخرافة، خصوصاً أن تلك المساجد الجامعة أضحت نموذجاً لاختبار نظام مراقبة المساجد بالكاميرات تحت لافتة "حماية صناديق النذور من السرقة"، وهي كاميرات لا تعد "بدعة" مشينة يخشى الوزير أن تعرض "أسوأ صورة عن الإسلام"... (والمفارقة هنا مفزعة حول هذه الممارسة ونظيرتها في قلاع الكنائس التي لا يُعرف ما بداخلها إلا بالقمر الصناعي!!) وليس على المرء أن يتهم الوزير في نيته ولا أن يحمل كلامه أكثر مما يحتمل، وأن يتصور اقتران الحديث عن "بدعة" الميكروفونات بعد شهور قليلة من مساعي توحيد الأذان بأنه خطوة نحو إسكاتها أو أن ذلك يعد نسخة جديدة من أتاتوركية مستنسخة بعد أن لفظها أهلها في الأناضول، تهدف إلى الانتقال من توحيد الأذان إلى بدعية الصدع به، كما ليس له أن يسترسل في ظنون تحيط بالعراقيل الموضوعة حالياً أمام بناء المساجد والخطوات العسيرة التي تكتنف مساعي أهل الخير في هذا الصدد.. لا، لن أقول هذا، بل سأقول في أبسط الأحوال، وبافتراض النية الصادقة للوزير في عدم استخدام ميكروفونات المساجد لإسماع من هم بخارجها في غير الأذان من صلوات ودروس وخطب وربما إعلانات كما في كثير من القرى عن الوفيات وغيرها، ما هي الأخطار المحدقة بصورة الإسلام ذاته في العالم الإسلامي كله من ميكروفونات المساجد قياساً بالاستبداد السياسي في معظم بلداننا الإسلامية الذي جعل شعوباً حرة كانت ناصية البشرية وشامتها أشبه بالعبيد بين الأمم الأخرى؟! وأي بؤس يحيق بصورة الإسلام ذاته عندما تصبح المؤسسات الإسلامية الرسمية في معظم تلك البلدان أشبه بدواوين الموظفين عوض أن تكون رائدة الإصلاح والاستقلال والعزة وحافظة العلم وناشرة الوعي بين الأنام؟! وكيف للمسلمين أن يعرضوا صورة ناصعة لإسلامهم في عصرنا إلا باستحضار التاريخ واستعراض كنوز قرآنهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فالحاضر لن يفي لهم بما يأملون، إذ نهب الشعوب وتخديرها وكسر شوكتها وإماتة نخوتها وإفساد تعليمها واقتصادها وأخلاقها وإذلال أنفسها وهتك ستائرها وانتهاك سيادتها هي عناوين هذه التشويه الصارخ لصورة أمتنا الإسلامية وتعبيد الطريق لنيل الآخرين من إسلامنا ذاته، وليس علو صوت الميكروفونات بين سكان معظمهم مسلمون. إن من المؤلم أن يقال مثل هذا الكلام في عصر التقنية والتقدم العلمي، وتنزاح كل هذه القوائم الطويلة التي ما قيل هنا أقل ما يقال في شأنها، ولقد يكون مخجلاً جداً لو التقطت شبكة ميميري (الصهيونية المعنية بالتقاط سقطات وزلات العلماء والشيوخ في العالم الإسلامي) ثم طيرتها إلى فوكس نيوز وغيرها هذه الكلمات وقالت للعالم الذي يخطب الوزير وُدَّه: انظروا دكتور الفلسفة في مصركم يقول عن "الميكروفونات بدعة"، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!! وما ضير الوزير أن يترك الفتاوى لدار الإفتاء ومشايخ الأزهر، ويتفرغ لمهام وظيفته كراع لأوقاف مصر الثمينة الغالية، ويعمل باجتهاد حتى تقوم هذه الوزارة بدور الأوقاف الرائد على مر عصور النهضة الإسلامية الممتدة، عندما كانت تمثل للمسلمين شرياناً لا ينضب من العطاء والتمويل لمشاريع التعليم والكفالة الاجتماعية، وصمام أمان استمرار مؤسسات الخير والإنماء المعرفي، وينبري لإصلاح حالة الخطابة والإمامة في مساجد الأوقاف لكي يمتعنا بسماع خطباء وأئمة وزارته يليقون بمكانة مصر وريادتها الإسلامية عبر التاريخ [email protected]