اشتعال الأزمة في اتشاد منذ 17 أبريل الجاري ما بين سلطة الرئيس إدريس ديبي المدعوم من فرنسا، والمعارضة المدنية والمتمردين المسلحين، بات مؤشرا إضافيا على قرب انتهاء عصر الهيمنة الفرنسية في القارة الإفريقية، فهذه الأزمة تضاف إلى الأزمة الرواندية عام 1990حينما ظلت القوات الفرنسية تتفرج على المذابح في البلاد، لتنتهي منذ ذلك الحين مقولة"فرنسا حامية إفريقيا"، وأزمة ساحل العاج عام 2002 التي كشفت أن فرنسا لم تعد موضع ترحيب في القارة السمراء. وبينما تبدو الأوضاع الداخلية اليوم في اتشاد وكأنها تتجاوز قدرة فرنسا التي تترد كثيرا في التدخل المباشر في الأزمة ، تحسبا لسيناريوهات مفاجئة، تظهر الولاياتالمتحدة اللاعب الرئيس في منطقة أصبحت منذ فترة غير قصيرة تقع في مركز اهتماماتها الاستراتيجية. ويقول الصحافيان الفرنسيان أنطوان غلاسر وستيفان سميت في كتابهما المشترك الذي صدر بعنوان"كيف خسرت فرنسا إفريقيا؟" عن أسباب التراجع الفرنسي في القارة:"إن إفريقيا الفرنسية قد ماتت، ليس بسبب قضية المواطنة التي تأخرت في الظهور، بل بسبب عدم قدرتها على التأقلم مع إفريقيا ومع العالم الذي تغير بشكل جذري". الوجود الفرنسي يعود الوجود الفرنسي في تشاد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما قامت فرنسا باحتلالها ضمن ما احتلت من بلدان القارة الإفريقية. وبعد حصول تشاد على الاستقلال عام 1960 عملت فرنسا على إبقاء نفوذها في البلاد، حيث احتفظت القوة الاستعمارية الفرنسية خلال العقود اللاحقة بتواجد عسكري واقتصادي وسياسي كثيف. وظهر التأثير الفرنسي في السياسة التشادية من خلال التحكم في جميع الرؤساء المتعاقبين على الحكم ، وتدبير انقلابات على أولئك الذين تنتهي الحاجة إليهم. كما أن فرنسا من أجل تقوية ارتباط البلاد بها - وخاصة في السنوات الأولى للاستقلال - حرصت على أن يكون رؤساء الدولة من الجنوب المسيحي. وبعد اندلاع المواجهات المسلحة بين النظام الليبي ونظام حسين حبري في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، وقفت فرنسا إلى جانب هذا الأخير ورفعت علاقاتها باتشاد إلى مستوى التعاون العسكري المطلق، حيث أصبح من حق قواتها الجوية التحليق في الأجواء التشادية في أي وقت. وخلال الحرب الأهلية التي اندلعت ما بين 1979 و1984 وسقوط العاصمة نجامينا في يد المعارضة المسلحة تدخلت فرنسا عسكريا لحماية سلطة الرئيس حبري، كما أبرمت اتفاقا مع الجماهيرية الليبية أعادت بموجبه هذه الأخيرة شريط"أوزو" الحدودي الغني بالثروات إلى اتشاد. وبالرغم من التأكيدات المختلفة الصادرة عن قصر الإليزي بباريس بشأن سحب القوات العسكرية الفرنسية المتواجدة بالقارة السمراء وأساسا بساحل العاج واتشاد بعد التحولات العالمية والإقليمية في بداية هذا القرن ، واستلام الاتحاد الإفريقي مهمات حفظ الأمن في القارة بديلا عن القوى الدولية السابقة،إلا أن المبرر الذي ظلت باريس تسوقه لتأخير هذا الانسحاب هو احتمالات انزلاق الوضع في إقليم دارفور السوداني المجاور إلى الحرب الأهلية، وعدم الثقة في النوايا الليبية بعد إعلان طرابلس في العام الماضي تخليها عن طموحاتها النووية، وهما مبرران غير كافيين بنظر المحللين الفرنسيين ، الذين يرون أن الدافع الحقيقي وراء عزم فرنسا البقاء في المنطقة هو انزعاجها من التدخل الأمريكي الذي صار يتغلغل في المربع الخلفي الذي ظل طيلة العقود الماضية حكرا على الفرنسيين. الجري خلف النفط وتشكل الثروة النفطية التي تزخر بها اتشاد العامل الأكبر في حسم الموقف الفرنسي لجهة تأكيد المزيد من الحضور في البلاد ، خاصة في مواجهة النفوذ الأمريكي الذي أخذ يتقوى تدريجيا، في إطار البحث عن بدائل لنفط الشرق الأوسط. غير أن الحضور العسكري والسياسي الذي لا تزال فرنسا تحتفظ به في لتشاد لا يعني استمرار سيطرتها على مقاليد الأمور المتعلقة بالاقتصاد والصناعة النفطية تحديدا، فشركة"إلف" إحدى كبريات الشركات النفطية الفرنسية أعلنت انسحابها منذ فترة بدعوى "عدم الاهتمام" بالمنطقة، متأثرة بانعدام الأمن وتراجع قدرة القوات الفرنسية الموجودة 3000 جندي فرنسي على حمايتها، لتحل محلها شركات أمريكية. لقد لاحظت فرنسا أن تقدم الإدارة الأمريكية بخطوات أسرع نحو المنطقة لم يعد يبقي لها مكانا لتشغله. فاتشاد أصبحت منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 جزءا من المنظومة الأمنية الجديدة في إفريقيا التي يطلق عليها"مبادرة الساحل والصحراء"، وهي ماضية في الانخراط ضمن الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة، كما لم يعد المسؤولون التشاديون يعلقون آمالهم على باريس بعد خفوت نجمها في بلدان الجوار، ويتطلعون إلى التقارب من واشنطن التي ستوفر لهم الحماية غدا، خصوصا وأن أولى المساعدات العسكرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب وفي إطار مبادرة الساحل بدأت تصل إلى نجامينا منذ وقت قريب، وتشهد على تنامي التعاون العسكري بين الجانبين. نجامينا وجهت ضربة موجعة لباريس بداية الأسبوع الماضي عندما أعلنت قبولها الوساطة الأمريكية مع البنك الدولي بسبب أزمة البترول المعلقة منذ نهاية العام الماضي، بعد اتهام البنك للسلطات التشادية بخرق الاتفاق الموجود معها ، والمتعلق بتحويل نسبة من مداخيل البترول إلى أغراض التنمية البشرية، مما دفع بمسؤولي البنك إلى تعليق القروض الممنوحة للحكومة في 12 يناير من هذا العام. ورأى المراقبون الأجانب في هذه الإشارة من حكومة اتشاد بداية التحول عن فرنسا ، والتقارب مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويقول هؤلاء إنه بصرف النظر عن مآلات الأزمة الراهنة بين الحكومة المركزية والمعارضة المسلحة ، قبيل موعد الانتخابات المقرر إجراؤها في مايو المقبل، فإن نهاية الوجود العسكري الفرنسي في اتشاد أصبحت مسألة وقت لا أكثر المصدر : الاسلام اليوم