لم اصدق ما نسب إلى الأنبا بيشوى من قول أن المصريين المسلمين ضيوف في وطنهم .. ولكن يبدو أنة بالفعل قال ذلك لأنه لم ينف ولم يكذب ما نسب إليه ثم إن الأنبا بسنتى أكد ما ذهب إليه الرجل فى حواربعد عدة أيام .. ويبدوا أن الأمرقديما فى وعيهما ووعى غيرهما من قادة الكنيسة فلم يستنكر احد فكرة الضيافة هذه . والحقيقة اننى وجدتني فى حيرة من تلك التصريحات الغريبة التى من شأنها أن توتر الأجواء و تلفها بضباب المباعدة والريبة..وبدا لى أن الأمر يحتوى على كمية من الخواء الإنساني والوطني تثير الجزع...فهل لى أن أسأل ما فائدة هذه التصريحات..وطرحها على واجهه الجدل العمومي؟ وهب أنها صحيحة ما الذي تتوقعه بناء عليها ؟ وإذا أكدت حقائق التاريخ والجغرافيا أنها غير صحيحةودرب من دروب الاوهام فما نتيجة تعبئه بسطاء الناس بهذه المغالطات ؟ ما معنى كل ذلك وما قيمته وما أثرة؟ لا شيء ..لاشيء على الإطلاق .. اللهم إلا الظهور بمظهر حامى حمى الأقباط ضد (طواحين هواء)الوطن .. و(تلصمة) صورة نضالية لحسابه الخاص.خاصة وان الكرازة المرقصية تتهيىء لبطريرك جديد بعهد جديد..والأمر يبدو للمهتمين بالشأن الوطني لا علاقة له بالحالة المدنية فى علاقة المواطنين بوطنهم..ويكشف أكثر عن حسابات داخلية قد تتعلق بترتيبات ما بعد غبطة البابا شنودة .فالجميع يخوض معركة وجودة لا معركة الوطن.حيث الصراعات والغيرة والمرارات والحسابات. يبدو لى ذلك من أكثر من زاوية..ليست فقط زاوية المجافاة العلمية والموضوعية والوطنية لفكرة تصنيف المواطنين الى ضيف ومضيف.ولكن الزاوية الأهم عندى هى حالة المسارعة إلى الضجيج الإعلامي والظهور بمظهرالفارس الدون كيشوتى...دون حساب للبعد الوطني والأمني والاجتماعي ..وهو ما يجعلنا نتساءل :أليس هناك سقفا وطنيا تتوقف عنده الطموحات الشخصية ..؟ وما ضمانات عدم الدخول فى مزايدات وهمية..من شأنها الإضرار والأذى و قض مضاجع الناس على نحوغيرمسؤول وغيررشيد .؟ ثم إنهم فى نهاية الأمر لن يستطيعوا تحمل نتائج الاتجاه الذى حفروا له المجرى طويلا. .. الجميع صغيرا كان أم كبيرا يعلم أن الحماية الحقيقية للأقباط من أى تهديد _ لاقدر الله_ فى أحضان إخوتهم المسلمين حيث الدفء العتيق والفطرة النقية ..فالجدران فى الجدران و الأموال فى الأموال والمصالح فى المصالح وأتصور أن الجميع يعلم ذلك .. والحديث على غير هذه المعاني يضر ضررا بالغا بفكرة العيش المشترك فى ظل دوله القانون. والحقيقة أن حاله النشابة والممائلة والتوحد بين المسلمين والمسيحيين فى مصر كانت من الحالات التى أثارت غيظ ودهشة الاستعمار فى مصر وهو ما لم يستطع كتابهم ومؤرخوهم أن ينكروه أو يتجاهلوه فى كل دراساتهم وكتاباتهم عن مصر وأهلها .. جون بورنج القنصل البريطاني كتب فى 1840 تقريره الشهير الذى قدمه لمجلس العموم البريطاني(سنة معاهدة حصارمحمد على) بعنوان(حالة مصر وكريت) والذى أكد فيه أن المسيحيين فى مصر معادين لأي احتلال وتجمعهم بالمسلمين عاطفة قوية ولا يمكن الفصل بينهم .ادوارد واكين أستاذ العلوم السياسية الامريكى صاحب كتاب (أقلية متوحدة) الذى أشار إلى قوة التمازج والتوحد بين المسلمين والأقباط فى مصر إلى حد غياب توصيف الأقلية عن أقباط مصر. وانا اقول كما يقول كل الغيورين على الوطن وامنه: أقباط مصر ليسوا أقلية.. لم يكونوا ولن يكونوا فى يوم من الأيام . كرومر صاحب كتاب (مصر الحديثة) الذى أفرد 14 صفحه فيه للحديث عن الأقباط ..قال مما قاله ( القبطى من رأسه إلى أخمص قدميه فى السلوك واللغة والروح مسلم وان لم يدر..) فقد تعجب الرجل من هذا الامتزاج الغريب بين المسلمين والأقباط الى الحد الذى لا تستطيع أن تفرق بينهما استنادا إلى اى شيء من مظاهرالحياة الاجتماعية..فقط حين يهم احدهما بأداء صلاته إلى ربه..فيدخل أحدهما المسجد ويدخل الأخر الكنيسة. السيدة (دف جوردون) صاحبة كتاب (رسائل من مصر) والتى دونت فيها ما رأته وسمعته عن الفترة التى عاشتها فى مصر بين 1862 إلى 1869 والتي ترجمها إلى العربية المرحوم على الراعى..قالت(لا يختلف المسلمون ولاالمسيحيون فى مصر فى أى شىء إلا فى قليل من المذاهب ولكن الخلاف الحقيقي هو بين الشرق والغرب) نفس هذه المعاني كتبها ادوارد لين المؤرخ والمستشرق البريطاني فى كتابه (المصريون المحدثون وعاداتهم القديمة) والذى نشرة عام 1836. ادوارد لين على فكرة هو الذي ترجم (ألف ليلة وليلة) إلى الإنجليزية. لم يستطع أحدا أن ينكر أو يتجاهل هذا التوحد والاندماج الرائع بين المسلمين والأقباط .. المصري كان مصريا قبل الأديان..ثم اعتنق بعضنا المسيحية واعتنق آخرون الإسلام ..لماذا يصعب على البعض تصور هذا المفهوم الشديد الوضوح والبساطة..من هذا الذي يستطيع أن ينكرعلى مصريتي كوني مسلما؟ ويصفني ويصف أجدادي بالضيوف..أي خيال ذاك الخيال.وأي علم بالتاريخ ذاك العلم وأي شعور بالمسؤولية الوطنية ذاك الشعور.؟(اتمنى على قائل هذا الكلام ان يقرأ رواية_ تاريخ حياة الكولونيل جاك ومغامراته المفاجئة_..التى ألفها دانييل ديفو مؤلف روبنسون كروزو). حين اشتكى والى مصر إلى عمر بن عبد العزيز تناقص الجزية المستمر قال له(إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا ولخير لى أن يدخل المصريون فى دين الله أفواجا من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة..) هذا ما حدث وهذا ما كان وهذه هى حقائق الجغرافيا والتاريخ. الإخاء بين المسلم والمسيحي على هذه الأرض عمرة من عمر هذه الأرض..ولا ينقص منه اختيار أحدهما أن يعبد الله على المسيحية أو يعبده سبحانه على الإسلام.. ليس الأقباط بالمسيحية ..من فلسطين ..بل مصريون اعتنقوا المسيحية. وليس المسلمون بالإسلام ..من الجزيرة العربية بل مصريون اعتنقوا الإسلام . خير لنا أن نسعى جميعا الى العيش المشترك فى ظل الحرية والعدل والكرامة و الرفاة.. وأن نتلمس الوسائل الصحيحة لكل ذلك..القصة ليست قصة إسلام المسلمين ولا مسيحية المسيحيين ..القصة قصة نفوس أبية كريمة..تأبى الذل والقهر وتستنكر مهانة النقصان والتخلف . فلنعلم ذلك بوضوح ولنعلمه لأبنائنا ونتواصى به جيلا بعد جبل.حتى لا نكون كما قال الشاعر(وعلمت حين لا يجدي العلم الفتى** أن الذي ضيعته كان معي).