يشكِّل الجدل المحتدم حول مشروع بناء مركز إسلامي بالقرب من موقع برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والذي يأتي قبل أيام من الذكرى التاسعة لتدمير البرجين في هجوم تبنَّاه تنظيم القاعدة، دليلًا جديدًا على أن الجهود التي بُذِلت طوال الأعوام التسعة الماضية للتأكيد على أن الإسلام ليس مرادفًا للإرهاب قد باءت بالفشل، وأن الآمال التي بناها المسلمون على وصول باراك أوباما للحكم كانت أكبر بكثير من قدرات الرجل وحدود الفعل المتاحة أمامه، وأن ما بذله المسلمون من جهد لتصحيح الصور السلبية التي لحقتْ بهم وبدينهم بفعل هجمات 11 سبتمبر كان أقل بكثير مما بذلَه خصومُهم، خاصةً أن حملات العداء للإسلام في الولاياتالمتحدة تتداخل فيها عدة منطلقات، بعضها ديني بحت، والبعض الآخر يرتبط بدوافع عنصرية معادية للملوّنين والمهاجرين عمومًا. هذا الفشل تجلَّى في الأرقام التي كشف عنها استطلاع للرأي نشرتْه مجلة "تايم" مطلع هذا الشهر، حيث أظهر أن 28% من الأمريكيين يعتقدون أن المسلمين يجب ألا يكونوا ضمن المؤهَّلِين لعضوية المحكمة العليا، وأن ما يقرب من الثلث يعتقدون أنه يجب منْع من يناصرون الإسلام من الترشُّح في انتخابات الرئاسة، وفي المجمل فإن 43% من الأمريكيين -وفقًا للاستطلاع- يتبنون وجهات نظر سلبية فيما يخص المسلمين، في حين يعتقد 46% أن الإسلام هو أكثر الأديان التي تحضُّ على العنف ضد غير المؤمنين بالدين مقارنةً بأي دين آخر، بينما وافق 55% فقط على بناء مساجد بالقرب من منازلِهم. الإسلام تُهمَة؟! وقد انعكست هذه الأرقامُ على حجْم اعتداءاتِ الكراهية التي تعرَّض لها المسلمون هذا العام، حيث تم تسجيل 10 حالات خلال الأشهر الثمانية الماضية، مقابل 6 حالات خلال عام 2009، الأمر الذي دفعَ العديد من المراكز الإسلامية في أمريكا للإعلان عن تقليص مظاهر احتفالِها بعيد الفطر هذا العام، بسبب تزامنِه مع ذكرى هجمات 11 سبتمبر، خشية أن تفسّر تلك الاحتفالات بشكل خاطئ، خاصةً أنه تم في الأسابيع الأخيرة تسجيل اعتداءات ضدّ مساجد ومراكز إسلامية في أكثر من ولاية، كما تعرَّض سائق مسلم في نيويورك للطعْن من أحد الركاب عندما أفصح عن هويتِه الإسلاميَّة، هذا فضلًا عن حملة "حرق المصاحف" التي دعا لها أحد القساوسة في فلوريدا، حيث تروّج كنيسته من خلال صفحتها على "الفيس بوك" لحملة عبر العالم لحرق القرآن المطَهَّر في يوم 11 سبتمبر الجاري، زاعمًا أن الإسلام من "نتاج الشيطان" وأن المؤمنين به "سيذهبون إلى النار". وقد أصبح الانتماءُ للإسلام في أمريكا تهمةً تحطُّ من قدر الشخص، خاصةً إذا ما كان شخصية عامة تعمل بالسياسة، وهذا ما يحدث مع الرئيس الأمريكي نفسه، إذ يركِّز خصومُه من الجمهوريين واليمينيين على الترويج لكونه مسلمًا بهدف الحطّ من شعبيتِه، وقد نجحتْ تلك الحملة إلى حد كبير، حيث كشف استطلاع للرأي أن خمس الأمريكيين يعتقدون أن أوباما مسلم، في حين تراجع مَن يعتقدون أنه مسيحي من 50% إلى 34% وتتلاقى تلك النسبُ مع نتائج استطلاع آخر حول خريطة مؤيدي أوباما، إذ تبيَّن أن أول رئيس أمريكي أسود يتمتع بتأييد 78% من المسلمين الأمريكيين و61% من اليهود الأمريكيين و63% من الملحدين، في حين لا تتجاوز نسبة مؤيديه 43% بين البروتستانت الذين يشكِّلون غالبية الأمريكيين، بينما حصل على تأييد نصف الكاثوليك الذين يشكِّلون خمس الشعب الأمريكي، بينما لا يشكِّل اليهود والمسلمون سوى 2%. كراهيةٌ كامنة وعلى الرغم من أن الأفكار والقِيَم التي روَّج لها أوباما أتاحتْ للمسلمين أجواء أفضل بكثير من تلك التي عانوها في ظلّ إدارة سلفه جورج بوش، إلا أن مشاعر الكراهية والعداء بقيتْ كامنةً في صدور كثير من الأمريكيين، خاصةً بين التيارات اليمينيَّة والمحافظة، التي حوَّلت الطلب الذي قدَّمَه ناشطون إسلاميون لبلدية نيويورك لإنشاء مركز إسلامي ضخْم بالقرب من موقع البرجين، إلى حملة كراهية مقيتة تستهدفُ الإسلام ذاته، بدعوى أن بناء المركز في هذا المكان يشكِّل "إهانةً واستخفافًا" بمشاعر عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر، رغم أن القائمين على المشروع قصدوا من ورائه إيصالَ رسالة تؤكِّد روح الحوار والتسامح بين الديانات والأعراق المتعدِّدة في الولاياتالمتحدة. ومن اللافتِ أن استطلاعات الرأي التي أُجريت حول هذا الموضوع كشفتْ عن مواقف متناقضة، ففي استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك قال 54% من الأمريكيين: إن من حق المسلمين بناء المركز استنادًا إلى مبدأ حرية الدين، لكن نفس النسبة تقريبًا أيَّدت نقل المركز لمكان آخر، مراعاةً لمشاعر عائلات ضحايا 11 سبتمبر، وقد فسَّر منظمو الاستطلاع هذا التناقض بأن مواقف المستطلعين تختلف باختلاف الصيغة التي يطرح بها السؤال، الأمر الذي يكشف أن غالبية الأمريكيين لديهم مواقف سطحيَّة عن الإسلام، تقوم بتغذيتِها من خلال ما تبُثُّه وسائل الإعلام، وأن قلَّةً هم من لديهم عداء متأصل تجاه الإسلام والمسلمين، وللأسف فإن هذه القلة تسيطر على وسائل الإعلام، وتقوم بتغذيتها برسائل سلبيَّة عن الإسلام والمسلمين. عداءٌ مخطَّط ومن الملاحَظ هنا أن تصاعد حملات الكراهية ضد الإسلام في الأسابيع الأخيرة لم يأتِ عفويًّا، بل إنه يرتبط بشكلٍ مباشر بانتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرَّرة في نوفمبر المقبل، والتي يعوِّل عليها أوباما وحزبه الديمقراطي بشدة للحفاظ على أغلبيتهم الحالية في مجلسي الكونجرس، في حين يعتقد الجمهوريون أن إحياء النزعة الشوفينية التي بثَّتها إدارة بوش اليمينية في صفوف الأمريكيين عقب هجمات 11 سبتمبر سوف يعزِّز كثيرًا من حظوظِهم الانتخابية، وقد شكَّل مشروع المركز الإسلامي قرب موقع البرجَيْن فرصة ذهبيَّة لتأجيج تلك المشاعر، وإظهار أوباما بمظهر المتواطئ مع أعداء أمريكا الذين دمَّروا رمز قوتِها الاقتصادية، وما زالوا يقتلون أبناءَها في أفغانستان، وبالطبع فليس هناك ما يمنع وضعَ مزيدٍ من "البهارات" عبر التشكيك في هوية أوباما المسيحية، والتذكير بجذوره الإسلاميَّة. ويبدو أن أوباما كان متنبِّهًا لتلك النقطة، ولذا فإنه أيَّد بناء المركز في ذلك المكان، انطلاقًا من حرية المعتقَد التي يكفلها الدستور الأمريكي، إلا أنه في ذات الوقت أبدى تفهُّمًا لمشاعر عائلات ضحايا 11 سبتمبر، أي أنه حاول إمساك العصا من المنتصف، لأنه يدرك أن انتخابات نوفمبر تشكِّل منعطفًا هامًّا لمستقبلِه السياسي، لأنها ستكون أول تصويت شعبي على أداء إدارته بعد عامين من وصوله للحكم، ومؤشرًا قويًّا على حظوظِه في الفَوْز بولاية ثانية، وإن كان هذا الأمر بات مشكوكًا فيه من الآن، لدرجة أن قادة الحزب الديمقراطي طلبوا من أوباما عدم المشاركة في الحملات الانتخابية لمرشحي الحزب خشية التأثير على حظوظهم في الفوز. وبالإضافة إلى الحقد الديني ومكائد السياسة، فإنه لا يمكن عزل حملات العداء للإسلام في أمريكا عن نزعة الكراهية التي تطال المهاجرين بشكل عام، فرغم أن أمريكا لطالما افتخرت بأنها "أمة من المهاجرين" وملاذ المبدعين وعشَّاق النجاح بغضّ النظر عن دينهم أو عرقِهم، إلا أن السنوات الأخيرة شهدتْ تصاعدًا كبيرًا في الحملات التي تشنُّها الجماعات اليمينية ضد المهاجرين من غير البيض، وهو ما يمكن ربطُه بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي تشهدُها أمريكا وتراجع معدلات النموّ وتزايد أعداد مَن يفقدون وظائفَهم، فهذه الأوضاع غالبًا ما تؤدي لنموّ ميول عدائية تجاه كل مهاجر جديد، باعتباره منافسًا على فرصة عملٍ أصبحت محدودة، خاصةً أنه غالبًا ما يقبلُ براتب ومزايا أقل، وربما يكون أكثر كفاءة وطموحًا، وهو ما ينطبقُ على المسلمين الأمريكيين، إذ أن جلّهم من المهاجرين غير البيض. وأخيرًا فإنه من سخرية القدر أنه في الوقت الذي يسعى أوباما لتحسين العلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامي، يواجِه المسلمون الأمريكيُّون أنفسهم تصاعدًا خطيرًا في حملات العداء، كأن خصومَ أوباما أرادوا نقلَ المعركة إلى الداخل، على عكس استراتيجيَّة دونالد رامسفيلد، وزير خارجية بوش، الشهيرة ب "نقل المعركة إلى أرضِ العدو" قاصدًا تنظيم القاعدة وتفريعاتِه. المصدر: الاسلام اليوم