طالعت يوم الثلاثاء الماضي المقال الأسبوعي في الأهرام للدكتور عمرو عبد السميع، والذي تناول فيه قضية الألغام في الساحل الشمالي في مصر، باعتبارها قضية يمكنها تجميع جهود شعب مصر - بأغنيائه وفقرائه وأحزابه وقواه السياسية ومنظمات المجتمع المدني فيه- على هدف قومي مشترك .. في غمز واضح ل "توهان" قوى المعارضة المصرية، ومنظمات المجتمع المدني كل في شأنه، غير مهتمين إلاّ بتحصيل أموال الدعم من هنا وهناك، والانشغال بقضايا تافهة؟! ، وبتلميح لا يمكن إغفاله عن ضرورة تعاطي الجميع - حكومة ومعارضة - مع القضايا القومية ، بدلاً من التلهي في قضايا فرعية عديمة الأهمية كالإصلاح السياسي والديموقراطية وحقوق الإنسان ، والإصلاح الدستوري والسياسي ، وقانون الطوارئ ، وخلافه. وحقيقة ، فقد أسعدتني فكرة الدكتور عمرو عبد السميع إلى حد بعيد ، لما سيجنيه الشعب المصري من فائدة فيما لو جرى تنفيذ تلك الفكرة .. لكن ما أدهشني حقيقةً هو تعرض الدكتور عمرو عبد السميع - ولو من باب الغمز واللمز لاهتمامات المعارضة المصرية - لقضية الألغام المصرية ، ومبعث دهشتي هو اعتقادي الراسخ حتى الآن ، بأن الدكتور عمرو عبد السميع - كما يعتبره الناس ويعتبر هو نفسه حتى الآن على الأقل أحد الأعمدة القوية والضخمة - في ذات الوقت - لتسويق سياسات النظام في مصر ، والدفاع عنها بالحق والباطل على السواء ، ولا يسمح لأحد من كان - بما فيهم الأعضاء السابقين في لجنة السياسات - بالتجرّؤ على معارضة السلطة والنيل من سياساتها بأي شكل من الأشكال ، ولذا كان من المستغرب للغاية - لمن هو مثلي على الأقل - أن يهاجم عبد السميع - مع مراعاة الألقاب - موقفاً أصيلا للرئيس حسني مبارك نفسه . ففي قضية ألغام العلمين ، أعرب الرئيس مبارك أكثر من مرة عن قناعته التامة بأن الألغام في مصر ليست مشكلة على الإطلاق ، ولا أدري لماذا اعتقدت دوماً أن السنة وأقلام وأبواق و"حلنجية" النظام في مصر يتابعون كل كلمة وكل حرف ينطق به الرئيس مبارك ، باعتبار ذلك المرجع الأعلى والأساس الأوحد لحملات الدفاع المنطوقة والمقروءة والمكتوبة والمذاعة في وسائل الإعلام القومية وغيرها ، والتي تُعتبر المدخل الوحيد لجيش الدفاع الإعلامي عن النظام ابتغاء مرضاته ، ومصالحهم في ذات الوقت . لكن وعلى ما يبدو ، غفل عبد السميع عن تصريحات مبارك الحكيمة ، ولم يتابعها بما تستحق من الجدية والاهتمام ، وإلا لما سقط تلك السقطة .. غير المقصودة . ما يدعوني للتعرض لتلك السقطة ، هو أن الرئيس مبارك أكد في برلين مرة أخرى على موقفه هذا من قضية الألغام ، وذلك في الأسبوع الثاني من مارس الماضي ، في دار المستشارية الألمانية ، وعلى مرأى ومسمع من لفيف الصحفيين الذين حضروا لتغطية المؤتمر الصحفي للرئيس مبارك والمستشارة الألمانية ، وكذلك أمام الوفد المصري السياسي والإعلامي العرمرم الذي صاحب الرئيس مبارك في تلك الرحلة ، رداً على سؤال ل "المصريون" للمستشارة الألمانية حول الالتزام الأخلاقي والسياسي لألمانيا وإيطاليا وإنجلترا - باعتبارهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي - عن نزع ألغام العلمين في مصر . وبينما بادرت المستشارة بقولها إن المباحثات مع مصر لم تتعرض لتلك القضية ، لكن إذا كانت مصر لديها مطالب محددة بخصوص ذلك ، فألمانيا مستعد ة لبحث الأمر باعتباره قضية مهمة وملحة تعني شعب مصر ، فما كان من الرئيس مبارك إلا أن انبرى سريعاً مكرراً ما ذكره من قبل في عدة محافل ، وبالحرف الواحد : إن "مصر ليست لديها مشكلة مع ألمانيا في قضية الغام العلمين" ؟!! ، وهو التصريح الذي أذاعته ونشرته وسائل الإعلام الألمانية عقب المؤتمر الصحفي مباشرة وبعد المؤتمر الصحفي ، التقيت في مقر إقامة الرئيس في برلين بالسفير سليمان عواد المتحدث الرئاسي المصري ، وسألته باستغراب عما إذا كان هناك جديد أغفلت متابعته بهذا الخصوص - بخصوص قضية الألغام - أم أن الوضع ما زال في العلمين على ما هو عليه؟ ، وسألته – بالتالي - تفسيره لرد الرئيس مبارك فقال : إن قضية الألغام معقدة ، ومصر لم توقّع على اتفاقية أوتوا الخاصة بعدم إنتاج ونشر وتسويق الألغام الأرضية ، وبالتالي "ربما" لم يرغب الرئيس في مناقشة الأمر مع الألمان على العلن .. لكن السؤال فرصة طيبة ستمنحنا فرصة جيدة !! لاستمرار ممارسة الضغط ، دون أن يتعرض للهدف من مثل ذلك الضغط . فبادرته بقولي : إن طرح القضية على هذا النحو خلط غير مفهوم لقضيتين ليس لإحداهما علاقة بالأخرى ؟!.. فعدم التوقيع على اتفاقية أوتوا لا يُخلي المسؤولية السياسية والمادية والأخلاقية للدول المسؤولة عن نشرها ، بغض النظر عن مصادر إنتاجها أو تسويقها ، والدليل على ذلك أن ألمانيا - وهي من الدول الموقعة على الاتفاقية المذكورة - تساهم إلى جانب دول لم توقع على اتفاقية أوتوا في نزع الألغام في كمبوتشيا وفيتنام وصربيا ودول أفريقية عديدة ، غير أنها - بسبب اعتبار مصر أن الأمر ليس بمشكلة ، حسبما يرى الرئيس مبارك - اكتفت بمنح مصر عدة أجهزة لنزع الألغام ، لا يزيد سعر الواحد منها عن 400 ألف يورو.!.وكأنها بذلك تقول : إذا كان الأمر لا يعني المصريين أنفسهم، فلماذا إذا تعقيد الأمر وتحمل تكاليف نزع الألغام.؟ .. تجمدت السياسة المصرية في هذا الملف باعتبار الألغام الأرضية قضية أمن قومي فقط ، تحمي حدودها هنا وهناك ، وامتنعت عن التوقيع على تلك الاتفاقية طالما لم توقع عليها كل الدول بما فيها الولاياتالمتحدة - على عكس الموقف من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعت عليها مصر ، مبررة ذلك - في البداية - بأن اتفاقية أوتوا لم تنشأ في الأصل من داخل منظمة الأممالمتحدة - وان كانت الأخيرة قد تبنتها لاحقاً باعتبارها اتفاقية دولية . لذا أحجمت مصر تبعاً لذلك - في خلط غير مفهوم سياسياً - عن مطالبة الدول المسؤولة عن زرع الغام العلمين بالقيام بمسؤولياتها في نزع تلك الألغام . ولم تُرِد مصر كذلك - لغرض في نفس يعقوب - من خوض معركة تعتقد - دون سبب سياسي أو قانوني مفهوم - انه لا أمل فيها ، هذا في الوقت الذي صرح فيه مرات عدة أكثر من مسؤول ألماني أن ألمانيا لم تقم بما عليها من التزامات بحق مصر في قضية الغام العلمين .. وبقينا نحن في حيرة من امرنا .. نتساءل مع المتسائلين عن تهاون السلطة في التعامل سياسياً على المستوى الدولي مع هذا الملف بما يستحقه من اهتمام . قد تكون مصر ليست مستعدة الآن لنزع "كل الغام الساحل الشمالي" أو سيناء ، لكن ليس هناك ما يمنع من نزع جزء من تلك الألغام في المناطق التي يعيش فيها المصريون الذين يقدمون الضحايا من أجسادهم يومياً . ومرة أخرى إلى الدكتور عبد السميع ، الذي قد يكون في حاجة ماسة للنصيحة قبل التعرض في كتاباته للقضايا المصيرية ، وبخاصة بعد أن اكتفى منها منذ أمد بعيد بما يخص أمن النظام فقط . نقول : إما الاطلاع بشكل كامل على موقف النظام ليتسنى لك الدفاع عن مواقفه بما تستحق من اهتمام تنتظره السلطة من التابعين ، وإما إغفال التعرض للقضايا الحقيقية من زاوية مصلحة الناس لكيلا تقع في المحظورات .. وأعتقد انك لست ممن يحبذون الوقوع ، ففي حالتك سيكون الوقوف مرة أخرى قضية مستحيلة .