في هذه الأوضاع الاحتكارية التي تمارسها الكنيسة للنشاط القبطي العام، شاهد المصريون في دور السينما عام 2004 عرضا لفيلم "بحب السيما"، وهو فيلم من تأليف وإخراج قبطيين مصريين. يصور الفيلم - الذي بدأ بتوجيه شكر خاص لقساوسة الكنيسة المصرية- قصة حياة أسرة نصرانية في حي (شبرا) شمال القاهرة؛ حيث الأب المتزمت دينيا الذي يصلي يوميا في حجرته أمام صورة لشبيه السيد المسيح لخوفه من الذهاب إلى جهنم، ويرفض ذهاب ابنه الصغير للسينما أو مشاهدة التلفزيون؛ لأنهما "حرام" وبهما كفر ومعصية. ويفاجأ الأب في الفيلم بأن أسرته وأقاربه لا يستمعون إلى نصائحه ويفعلون هذه "المحرمات"، فيبدأ في الانحراف وشرب الخمر، غير أنه يعود لنبذ حياة التطرف ويتجه للاعتدال في النهاية ويدخل السينما مع ابنه. ويصور الفيلم تفاصيل دقيقة عن حياة أقباط مصر ومعتقداتهم، وخلافاتهم لحد تصوير مشاجرتين حاميتين وعراك حاد داخل الكنيسة في مناسبتين مختلفتين (زواج ووفاة) بين أسرتين، ولكنه رغم ذلك يتضمن لقطات شبه عارية فجة لبطلتي الفيلم (ليلى علوي ومنة شلبي) سمحت بها الرقابة المصرية بحجة عرض الفيلم تحت بند "للكبار فقط"!. أثار الفيلم غضبا قبطيا عارما، وتصدرت الكنيسة كالعادة المعارضة المسيحية للفيلم، وتقدم أربعون من كبار القساوسة، يوم 5/7/2004، بمذكرة احتجاج للنائب العام، وطلبوا وقف عرض الفيلم واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المنتج والمؤلف .! وتضمنت مذكرة قدمها القساوسة إلى النائب العام اعتراضات على مشاهد في الفيلم وتتضمن "ازدراء للعقيدة"، ولفتت إلى أن الفيلم "يصور مشاجرات ومناظر فاضحة في داخل إحدى الكنائس واعتداء على رجل دين مسيحي بالحذاء وهو ما يمثل إساءة إلى أقباط مصر"، مؤكدة أن القساوسة "لا يمانعون من تصوير الأقباط في الأعمال الدرامية ولكن الاعتراض على استخدام نصوص مقدسة داخل الفيلم والتهكم على بعض المعتقدات الدينية. و رغم أن بعض الاعتراضات المسيحية على الفيلم، عزت غضبها إلى ما اعتبرته "مساسا بعقيدتها الدينية"، إلا أن التصريحات التي أدلى بها القساوسة لوسائل الإعلام من جهة، وبعض الحقائق التي تكشفت بطبيعة الحال في سياق هذا الجدل الساخن حول الفيلم من جهة أخرى، بينت أبعادا أخرى للقضية. فهي من جهة أفصحت عن احتقانات طائفية حادة داخل بنية الجماعة المسيحية ذاتها، و التي تتكون من 80 طائفة، بحسب موسوعة النصارى والنصرانية والتنصير في مصر، إذ اعتبر بعض القساوسة الفيلم حملة تشهير من طائفة مسيحية "تمثل الأقلية داخل الجماعة المسيحية" ضد طائفة أخرى تمثل التيار الأساسي القبطي في مصر، إذ لفت القساوسة إلى أن المنتج والمخرج قبطيان، ولكنهما من الأقباط الإنجيليين في حين أن غالبية الأقباط المصريين من طائفة الأرثوذكس، فيما أظهرت الاعتراضات وبطرف خفي، اتهامات التكفير المتبادلة بين الطوائف المسيحية المختلفة، عندما أشار القساوسة المحتجون إلى أن الفيلم، يروي قصة زواج بين رجل أرثوذكسي "الزوج المتزمت في الفيلم"، وامرأة بروتستانتية "الزوجة المتحررة في الفيلم"، وهو زواج لا تجيزه الكنيسة للاختلاف بين الطائفتين عقديا. فيما اعتبر في الوقت ذاته، استخداما رمزيا، للدلالة على "الانغلاق الأرثوذكسي" مقابل "الانفتاح البروتستانتي". ومن جهة أخرى، أعاد الفيلم المماحكات الطائفية لبعض القيادات الدينية المسيحية ضد الأكثرية المسلمة، إذ طالب عدد من قيادات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية ب"العدل" و"المساواة" في شرح عقيدة المسلمين والمسيحيين في الأفلام المصرية بحيث يتم إظهار التطرف الإسلامي داخل الأسرة المسلمة كما هو الحال داخل الأسرة المسيحية، رغم أن التطرف بين بعض المسلمين عالجته بالفعل عشرات الأفلام والمسلسلات المصرية وبصورة أكثر نقدا. وقال الأنبا "بسنتي" أسقف حلوان والمعصرة لمجلة "المصور" المصرية يوم 11 يونيو 2004: إنه لا مانع من تقديم الشخصية المسيحية في السينما المصرية "ما دام الناتج النهائي للشخصية ليس منحازا ضد الأقباط أو يلحق بهم ظلما وتشويها". من جانبه قال الأنبا يوحنا قلته نائب بطريرك الأقباط: إنه يجب أن تكون حرية التعبير بالفن "مشمولة بالعدل والمساواة.. فإذا كان هناك عمل فني يصور أسرة مسيحية متطرفة، فمن المهم أن نظهر التطرف في الجانب المسلم أيضا". غير أن ما أثار غضب الكنيسة أكثر، هو أن الفيلم كسر طوق الاحتكار الذي تمارسه الكنيسة سرا وعلانية على مجمل النشاط القبطي في مصر، في إطار التساهل الرسمي إزاء رغبتها في التحول إلى قوة موازية لقوة الدولة، خاصة فيما يتعلق بإدارة شؤون الأقباط، حيث كشف الجدل المحتدم حول الفيلم، ما لم يكن يعلمه الرأي العام المصري قبل هذه الضجة، حيث أشارت إحصائية مصرية نشرتها مجلة "المصور" في عددها الصادر 28 مايو 2004 إلى أن عدد الأفلام المسيحية التي تنتجها الكنائس وتعرض داخلها أو على القنوات المسيحية الفضائية وبين أقباط المهجر ولا تعرض على الجمهور العادي في مصر بلغ 175 فيلما خلال ال17 عاما الماضية بواقع 10 أفلام سنويا تقريبا، وهو عدد يفوق الأفلام التي تنتجها استوديوهات السينما المصرية والتي تقل كثيرا عن عشرة أفلام. وأن هذه الأفلام ذات طابع "تبشيري" تسوّق عبر الكنائس والقنوات الفضائية التبشيرية المسيحية مثل "سات 7 " و"الحياة" و"ميريكال" أو المعجزة، وكلها تدور حول قصص الأنبياء والقديسين وتظهر المجتمع المسيحي كمجتمع ملائكي معصوم من الزلات والخطأ. ولعل المفاجأة التي كانت لا تلفت انتباه المسلمين المصريين قبل ذلك، هي أن الكنائس المصرية تقوم بتنظيم مهرجانات للفيلم المصري تحت أسماء مسيحية مثل "مهرجان المركز الكاثوليكي"، و"مهرجان الأفلام المسيحية الأرثوذوكسية" يضاهي مهرجانات الأفلام المختلفة ويقدم جوائز لأفضل الأفلام وأفضل الممثلين. وهي مهرجانات تعكس من عنواينها في الوقت ذاته واقع التنافس الطائفي داخل الجماعة المسيحية المصرية. ولعل احتكار الكنيسة المصرية لإنتاج الأفلام منذ ثلاثة عقود مضت، هو الذي حملها على الدفاع عن هذه الميزة التي اعتبرتها مكسبا تبشيريا، من خلال حملتها على الفيلم، باعتباره جرأة ستقلل على المدى البعيد من هيمنتها الإعلامية على رعاياها من المصريين، وربما يؤثر على "هيبتها السياسية" التي اكتسبتها من خلال مكانتها الدينية ممثلة في استيلاء اعضاء من تنظيم "الأمة القبطية" المتطرف على قنوات وأوعية توجيه الرأي العام القبطي منذ سبعينيات القرن الماضي "العشرين" وللحديث بقية إن شاء الله تعالى [email protected]