فى المقالين السابقين فتحنا ملفين هامين يستحقان جهوداً حثيثة من الاخوان المسلمين لتصويب المسار على هدى التعديلات الضرورية فى برنامجهما ، وهما التكامل مع السلطة بما يحقق الانسجام بين الدعوة والدولة ، لا المفاصلة بينهما ، ثم اصلاح الحاكم الفاسد والاجتهاد فى ضمه والاستفادة بخدماته فى جهود الاصلاح ، ورأينا كيف كان سلوك الاخوان العام مع عبد الناصر مناهضاً لهذه الفلسفة الاصلاحية التى سار على دربها الكثيرون منذ الحسن البصرى والفضيل بن عياض ، مروراً بذى النون المصرى وأبى حامد الغزالى والجيلانى وأبى الحسن الشاذلى ، وحتى سعيد النورسى والشيخ محمد بن عبد الوهاب الذى أقامَ دولة الدعوة فى الجزيرة العربية بالتعاون مع الامام محمد بن سعود الكبير . العلاقة مع جمال عبد الناصر تحتاج وحدها الى وقفات ومراجعات ضخمة ؛ لأن البناء بعد ذلك على تراكمات أخطائها واهالة الركام على الحقائق دون تصحيح أدى الى خطايا مُفزعة ، وكان سبباً رئيسياً فى عدم قدرة الحركة الاسلامية بجميع فصائلها على ضبط علاقاتها مع الحكام ومع السلطة عموماً فيما بعد . هنا ملف آخر هام نفتحه ليخوض فى تفاصيله الاخوان وليراجعوا فيه أنفسهم جيداً ، وقد نعود الى رموز هذا الملف لاحقاً أمثال صلاح أبو اسماعيل والغزالى وعبد العزيز كامل .. الخ الا أن الوقوف على تجربة الشيخ أحمد حسن الباقورى تغنى هنا عن أى مثال آخر فى سياق تأكيدنا على أن الاكتفاء بالقليل من السلطة يفيدُ الحركة الاسلامية ويخدمها ويدعمُ قضاياها وبرامجها ، بعكس السعى للتكويش والانفراد بها ، الذى يهدمُ كل شئ ويطيحُ بكل المنجزات ويشتت الجهود ويعجلُ بالسقوط . وبسبب نزعة الاستحواذ والتكويش هذه الأيام فقدنا حتى حقيبة الأوقاف التى أراها أهم وزارة يمكن للاسلاميين الحصول عليها ، فجاءَ بعد اسقاط الاخوان من السلطة من يضيق على الدعاة ويراقب الخطبة ويغلق المساجد والزوايا الصغيرة . نعلمُ ما حدث وربما يعترف الاخوان بأنهم أصروا على عدم التنازل عن عدد معين من الحقائب الوزارية فى حكومة الثورة وعلى نيل وزارات بعينها ، ويعلمُ الجميع قصة قبول الشيخ الباقورى لوزارة الأوقاف بعدَ هذا الخلاف ليكون عقابه هو الاجبار على الاستقالة من الاخوان بعد أن كان عضواً فى مكتب الارشاد ونائباً للمرشد . لكن المثير هنا هو انجازات الباقورى خلال سبع سنوات تولى خلالها المنصب ( 1952م – 1959م ) ، يقولُ هو عنها أن كل سنة منها بعشر سنين ، ومن النادر جداً ما تجدُ اشارة واعترافاً من الاخوان فى كتبهم بتلك الانجازات ، وهنا كلام على استحياء لمؤرخ الاخوان محمود عبد الحليم الذى نسبَ الفضلَ كله للجماعة التى ظلَ الباقورى وفياً لمبادئها ! حيث يقول : " هذه المفاجأة المؤلمة والتى انتهت بفقد الدعوة لأحد أبنائها الكبار ، لم تفقد المرشد العام من ناحية حبه الشخصى لهذا الأخ ، كما أنها لم تفقد هذا الأخ حبه وتقديره للمرشد ، ثم قررت بدورى أنها لم تفقدنى حبه ، وأوردتُ أمثلة لتصرفات تومئ الى أن هذا الأخ وان فقد موقعه فى الدعوة ، فانه حاولَ جاهداً أن يعملَ للمبادئ التى تعلمها فى الدعوة والمثل التى أُشربها فى موقعه الجديد " . حقيبة وزارية واحدة استطاعَ من خلالها هذا الثائر الذى لا يهدأ – كما أطلقتْ عليه نعم الباز ( ثائر تحت العمامة ) – والاخوانى السابق تحقيق الكثير للدعوة الاسلامية ، حتى أن الكثير مما سببه الحرص اليوم على كل السلطة وكل المناصب وكل الوزارات وأغلبية البرلمان ورأس السلطة من كوارث للدعاة والدعوة والمساجد ، ليدعونا الى النظر والتأمل ويستثيرنا للمقارنة بين منصب يتيم وسلطة كاسحة . وربما يتذكر أستاذنا فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى جيداً كيف عارضَ الباقورى قرارَ الأمن فى وقف تعيين عشرة من شباب الاخوان من خريجى الأزهر المعينين على وظيفة امام وخطيب ورفض الأمنُ تعيينهم لانتمائهم لجماعة الاخوان المسلمين ، فاذا بالباقورى يفاجئ الجميعَ بتعيينهم على مسئوليته الشخصية ، وكان من بين هؤلاء العشرة " يوسف القرضاوى وأحمد العسال " ! تمثيل الاخوان الرمزى بمنصب واحد يحمى الدعوة ويضمن ازدهار نشاطها وحرية الدعاة واستقلالية المساجد وحيويتها ، أفضلُ من تمثيل طاغ يعصف بهذه المنجزات . وطالما تنميتُ أن يكون شيخاً مُعمماً على شاكلة الباقورى – وليس تعميماً للمشايخ - هو سفير الاخوان فى السلطة .
هشام النجار عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.