"من أكثر قادة الإخوان المسلمين نقاء؛ وصفاء؛ وتقى؛ عرف طريقه إليهم في أوائل الأربعينات؛ وكان موضع ثقة فضيلة المرشد وتقديره؛ ومنذ خطوته الأولى على الطريق؛ وحتى يومنا هذا لم يتغير؛ ولم يزايله هدوؤه وسلامة طويته ونور شخصيته". هكذا عرّف الأستاذ الكبير خالد محمد خالد عليه رحمة الله في مذكراته "قصتي مع الحياة" بالأستاذ فريد عبد الخالق؛ وهو قد شهد له بعد طول معرفة وعمق تجارب ودروس محن وابتلاءات. وهكذا لا يعرف أقدار الرجال إلا الرجال الذين يزنون بمقاييس العدل والإنصاف ويتجاوزون الهوى والمصالح. وما أقلهم في زمن المصالح والهوى. ربما كان هذا الكلام الذي قدم به الأستاذ خالد محمد خالد أستاذي وحبيبي الأستاذ فريد عبد الخالق ليس جديدا على كل من عرف الأستاذ فريد أو اقترب منه؛ وأشهد أني عرفت الرجل عن قرب وقرب شديد لسنوات عديدة؛ وتتلمذت على يديه قراءة وحديثا؛ واستمعت بعمق ووعي شديد لتجربته الثرية في الحياة واستوعبت معالم فكره وتصوره عن العمل الإسلامي والوطني؛ وأحسب أن للأستاذ فريد منظومة فكرية متكاملة تأخذ بعضها بأطراف بعض؛ ويفسر بعضها بعضا وهي في مجملها تقدم نموذجا فكريا راقيا للإصلاح والتغير في تلك الحقبة بالغة السوء من تاريخ مصر المعاصر. وأشهد أن الأستاذ فريد أراني من نفسه خالص الود وعلمني كيف يكون المعنى الرباني في النفس البشرية وكيف تكشف عن مستوى من الرقي ينتزع من داخل الإنسان شهادة على بديع صنع الله الذي خلق فسوّى وقدر فهدى وأخرج لنا هذه النماذج الطيبة والقدوات الحسنة التي تثبت لبقية البشر أن الإنسان قادر بما أودعه الله فيه من مكنات وقدرات على تجاوز مقتضيات القبضة من طين الأرض في نفسه والتحليق في سماوات النفخة العلوية من ورح الله. كتبت كثيرًا عن الأستاذ فريد عبد الخالق ولا زالت تحلو في فمي وعلى لساني كلمة "الأستاذ فريد" حتى بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من حقوق القاهرة برسالته القيمة: "الحسبة على ذوي السلطان والجاه" فلقب "الأستاذ" صار عليه علما؛ وهو أستاذ بما تقتضيه معاني الأستاذية من تربية خالصة وحنو صادق وتفاهم عميق؛ يعذر بالضعف الإنساني ويقدّر ضغوط الحياة ويتجاوز عن الزلات ويتغافل عن الهفوات فلا يعنف ولا يعاتب ويحاور بالحكمة والموعظة الحسنة؛ يلتمس الأعذار ويعفو عن المسيء. والأستاذ فريد – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- من نمط الشخصيات التي تمر بحياتك أو تمر أنت بها فتستقر بقلبك وتأخذ مساحات وافية من عقلك ولا يمكن أن تغادر قبلك وعقلك؛ وفاءا وأصالة أو عرفانا بالفضل لأهله من ذوي السبق وجميل الخصال والفعال. والأستاذ فريد هو "أستاذ جيل" بحق لكثرة من مروا بين يديه وعاشوا معه دور التلمذة الصادق وارتبط معهم بعلاقات أخوّة حقيقية لا يزيدها مرور الأيام إلا رسوخا؛ ولا يزيدها كر الأيام والسنين إلا ثباتا. كان رئيس قسم الطلاب في جماعة الإخوان منذ أيام الأستاذ البنا من 1941 حتى عام 1951 وكان هو القسم الذي تمور بأفراده الحركة الوطنية في مصر يوم أن كان هناك حركة وطنية طلابية عمادها طلاب الثانوي والجامعات؛ ويوم أن كان للطلاب دور بارز في الحياة السياسية المصرية؛ كان هذا القسم أنشط أقسام جماعة الإخوان. ثم أصبح رئيسًا لقسم الخريجين حتى عام 1954؛ ثم عيَّنه الإمام البنا مسئولا (سكرتير تحرير) عن جريدة "الإخوان المسلمين" اليومية من عام 1946 حتى توقفت عن الصدور عام 1948. واختاره الإمام البنا عام 1943 عضوًا بالهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين، ثم عضوًا بمكتب الإرشاد. وظل يتمتع بعضوية مكتب الإرشاد فترة طويلة من الزمن. عرفت الأستاذ فريد عن قرب من سنين معدودة؛ وإن كنت عرفته وسمعت منه منذ ما يقرب من عقدين من الزمان؛ عرفته عن قرب وكثب لا عن كتب؛ فأخذني بصدق حديثه؛ وعمق فكره؛ وصادق مودته؛ فوجدته أبا حنونا ومفكرًا مهموما بحاضر ومستقبل بلده وأمته؛ أم ولد ثكلى على أحوال بلد يسير بمعدلات غير مسبوقة نحو الهاوية؛ يسأل الله النجاة. لقد عرفت الأستاذ فريد عبد الخالق حكيما في زمن قل فيه الحكماء. اشتغلت على سيرته الذاتية (مذكّراته) وقمت على تحريرها ومراجعتها فأخذت من عمري حوالي ثلاث سنوات أما هو فقد كتبها على مدار ما يقرب من عشرين سنة. وهي سيرة ذاتية أو مذكّرات ستكشف كثيرا من أسرار حقبة تاريخية لا زالت مصر تكتوي بنيرانها. وستكشف دقائق وتفاصيل في الحياة السياسية المصرية وأسرار العلاقة بين الإخوان ونظام جمال عبد الناصر ولماذا أخذ الصراع بين الطرفين طريقه المحتوم وكيف كان للأستاذ فريد محاولات حثيثة لمنع اندلاع الصراع. قرأت كثيرا مما كتب الأستاذ فريد عبد الخالق على مدى عشرات السنين (وخاصة ما لم ينشر) وجمعت وحررت سيرته الذاتية أو مذكّراته – وهي على وشك الصدور- فانفتحت لي آفاق من المعرفة من شاهد عصره قريب من دوائر صنع القرار على مدى سنوات طويلة؛ سواء داخل جماعة الإخوان المسلمين أو على خطوط التماس بينها وبين القائمين على انقلاب يوليو 1952. والأستاذ فريد عبد الخالق قصة من قصص الوفاء للإمام الشهيد حسن البنا شخصا وفكرا ومنهجا في الدعوة والإصلاح؛ يحكي الأستاذ فريد أن الأستاذ البنا كان كثيرا ما يكلفه بإلقاء درس الثلاثاء أثناء سفره؛ وكان أحيانا يجعله يلقي الدرس وهو حاضر وفي إحدى المرات ألقى الأستاذ فريد الدرس والأستاذ البنا واقف يسمع وبعد أن أنهى كلمته سلم عليه الأستاذ البنا وشدّ على يديه وقال له: الآن أجزتك. رحم الله الإمام البنا فلقد كان ملهما موهوبا في معرفة معادن الذهب في الرجال؛ والبحث عنها وفتح آفاق العمل والإصلاح أمامها وإطلاق طاقتها بلا حجر ولا تضييق ولا سلطة موهومة. وإذا كان كثيرا من العلماء والمصلحين لم يؤلفوا كتبا مقروءه وإنما بنوا رجال وألفوا قدوات طيبة ونماذج صالحة تمشي على الأرض؛ فأحسب أن الأستاذ فريد عبد الخالق كان أحد الكتب الهامة التي ألفها الإمام البنا.