شاهدنا على طول حياتنا دور العصا و استخداماتها المتنوعة فيما هو نافع و فيما هو ضار أيضاً ؛ و رأينا كيف كان الشرطى فى الخمسينات يمسك بعصا صغيرة أو يعلقها على جنبه و هو يسير فى شوارع البلاد يتأكد من غلق المحلات و يتفقد حالة الأمن فى منطقة حراسته و كانت الناس تستنجد به عند المشكلات فكنا نشعر بالاطمئنان و الأمان . و مرّت الأيام و تطورت العصا الخشبية لتصبح هراوة ثقيلة فى أيدى رجال الأمن المركزى ثم عصا كهربية تصعق ثم رأينا الرصاص المطاطى و قنابل الدخان و الغاز و الرصاص الحىّ ثم وجدنا مستوى التسليح يقفز إلى الدروع !! فهذا واقى من الصلب يرتديه رجل الأمن و هذا سلاح يخترق الدروع و يهدم الأبنية ثم دخلت الطائرات إلى الميدان تدعم رجال الأمن ؛ كل ذلك حدث لتطور الجريمة من جانب و تدهور المعالجة الحكومية من جانب آخر و أخيراً وصل بنا الحال إلى وجود جيش جرار من قوات الأمن المركزى يُمثل قوة ضاربة ورادعة لكل من تسول له نفسه من القوى الشعبية أن يعبر عن وجهة نظره بموقف إحتجاجى أو إعتصام أو مظاهرة سلمية كفلها الدستور و القانون .... و الخلاصة أن شخصية جندى الأمن الذى كان يحمى الشعوب إندثرت معالمها وحل محلها جيش أمني لحماية الأنظمة الحاكمة فى البلدان ضد شعوبها !! وما من شك فى أن للعصا فوائد جمة قررتها الشريعة الإسلامية سنقوم بعرض ملامحها دون خوف من أن تنزعج بعض منظمات حقوق الإنسان و الحيوان !! لأن الحق أحق أن يتبع و لا يترك الصواب من أجل فريق من الناس لا يدركون عظمة الإسلام و حكمة تشريع الضرب و التأديب المنضبط . إن الذى ترفضه الشريعة هو أن يتحول التأديب إلى أداة إنتقام و بطش لا شفقة فيها و لا رحمة فكم من إنسان فاشل حزن لأنه لم يتربّ على النحو اللائق فتسبب ذلك فى إنحراقه و كم من إنسان ناجح تذكر والديه و معلميه الذين قسوا عليه أحياناً فدعا لهم أو ترحم عليهم و كم من مظلوم بكى أو سقط صريعاً تحت وطأة سوط مسئول لا يعرف خالقاً و لا يرحم مخلوقاً و إليك أيها القارئ هذه الخلاصة حول العصى التى قررتها الشريعة : 1- عصا الحاكم و هى عصا صغيرة خفيفة من الجلد أو القماش الملفوف يجوز للحاكم أو نائبه حملها ليؤدب بها فى كل ذنب ليس فيه حد شرعى مقرر ....و لقد اشتهرت درّة عمر بن الخطاب رضى الله عنه و كانت من رقائق جلد البقر و هى عصا عدل و رحمة لم تكن تسقط إلا على العاصى لزجره و كف أذاه و تقويمه .... و لقد أنصف بها المظلوم من أقباط مصر حين ضربه ابن عمرو بن العاص لكونه تقدم عليه فى سباق و لا شك أن الحاكم الذى يعرف حدود استخدام هذه العصا لا ينبغى أن ينكرعليه أحد لأنه يربى الرعية أما من سبقت عصاه عقله و طاش لبه غضباً لنفسه من حكام اليوم و معاونيهم لا يجوز لهم أن يمسكوا هذه العصا لأنها تفتح باب شر عليهم و تضيف إلى أوزارهم فكفاهم من الأوزار ما حملوها ومن السيئات ما جنوها !! 2- عصا القاضى و هى بنفس المواصفات و تستعمل فى حدود جلسات القضاء لضبط حركة التقاضى و منع المتخاصمين من الشجار أو التعدى على الشهود و لا تستعمل فيما يزيد عن ذلك و يجوز له أن ينيب من يثق فى صحة استخدامه لها بإذنه و أمام عينيه فالهدف هو سير العدالة و عدم تعويق إجراءات التقاضى و تأمين المحكمة ---- وهنا تكون العصا فى أيدى أمينة أما إذا فقد القضاء لاستقلاله و حياده و أصبح أداة فى يد السلطة يؤدب بها خصومه فهى إضافة إلى رصيد المظالم التى يحملونها متضامنين فوق أكتافهم .... 3- عصا المحتسب فإذا تكلمنا عن المحتسب فهو من موظفى الدولة و من أصحاب الولايات العامة التى تختص بالدور الرقابى على الشوارع و الأسواق لمنع المنكرات و إزالتها و ضبط الحركة وفق منهج الله تعالى ؛ و له إيقاع العقوبة بالضرب على المجاهر بالمنكر و لم يمتثل لأمره و هذه المهمة يسندها الولاة إلى شخصيات تتمتع بالعلم الشرعى و الحكمة و التقوى و الحزم فى غير عدوان ، فيعرف على من يرفع العصا و إلى أى الأماكن فى الجسد تهوى و متى يكفها عن المتجاوز .... ولا شك أن المحتسب يعمل لحفظ النظام العام فى الدولة وفق دستورها و قانونها فلا يُنكر على أحد إلا أن يكون مخالفاً للإجماع أما المسائل المختلف فيها فلا يجوز له الإنكار إلا أن تكون الدولة قد إعتمدت فى المسألة مذهباً فقهياً للعمل به فيأمر الناس بالتزام اختيارات الدولة فى الظاهر بصرف النظرعما يعتقدونه فلا دخل له ببواطن الأمور .... فالمحتسب يقوم بدور الشرطى الذى ينصر المظلوم و يكف شر الظالم عنه و يفض المشاجرات و يفصل بين المتنازعين فى الأسواق و يمنع المحتكرين من التلاعب بالأسعار و هو دور مباحث التموين فى العصرالحديث .... أما ما نشاهده اليوم من انتكاس فى استخدام السلطة لهذه الوظيفة فهو أمر لا علاقة له بمشروعية عصا المحتسب حيث نرى المنكرات فى الشوارع و الملاهى الليلية تحت سمع و بصر الشرطة بل إن من يتصدى لإزالة المنكر بمجرد النصح يتم ضبطه و ربما اعتقاله بدعوى أنه متشدد و ليس له الحق فى الإنكار على المواطنين الذين يرتكبون المعاصى فى عرض الطريق !! 4- عصا الأبوة و هى من حق الوالدين على ولدهما لتربيته و تهذيبه بعد المرور بمرحله الوعظ بالقول ثم الوعيد ثم التعنيف و لم تنفع هذه الطرق معه . و للوالدين ضرب الصبى على ترك الصلاة إذا بلغ عشرسنين . لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مروا أولادكم بالصلاة و هم أبناء سبع سنين و اضربوهم عليها و هم أبناء عشر سنين و فرقوا بينهم فى المضاجع ] و لا ينبغى أن يتجاوز الضربات الثلاث على رآى الجمهور و هناك من يرى إمكانيه الزيادة حتى العشرة إذا كان الغلام قوى البنية و لم يتأثر من الضربات الثلاث .... إن عصا الأبوين رحيمة تضرب من أجل مصلحة الأبناء و تراعى أن تقع على مواضع اللحم بعيداً عن الوجه و المناطق الحساسة التى قد تقتل الطفل أو تصيبه و ما نشاهده اليوم من عقوق الأبناء لآبائهم نتاج سياسة حكومية شجعت الأبناء على مخالفة الآباء و الأمهات بدعوى حرية التفكير و الرأى ثم فى تقليد الغرب بمنع الوالدين من تأديب الأبناء حيث بدأت هناك بوادر تسرب هذه القوانين التى تحظر ضرب الأبناء إلى مجتمعاتنا الإسلامية مما يجعل الأب معرضاً للإستدعاء من قبل الشرطة و التحقيق معه نتيجة بلاغ أو اتصال تليفونى من الإبن يشكو أحد والديه و يطلب الحماية !! 5- عصا الوصى و هى متفرعة عن الأبوة فإذا أوصى الوالد لأحد أقاربه أو اصدقائه ليكون قيماً على أبنائه فإن الوصى يباشر دور الأب فى التأديب على نفس مستوى التدرج و له أن يضرب و يعاقب لتعليم الأبناء و تربيتهم على أن يتقى الوجه و البطن و المناطق التى يخشى منها القتل . 6- عصا المعلم .... قد يحتاج المعلم إلى تأديب التلاميذ لأن هناك من بينهم من لا يصلح معه الوعظ أو الزجر أو التوبيخ فيلزم ردعه بالضرب فى الحدود التى أشرنا إليها مسبقاً فى عصا الأبوة و اشترط بعض الفقهاء إذن الوالد للمعلم و الوصى فى ضرب الغلام و رأى آخرون أن المعلم مأذون له ابتداءً بغير تعد أو تجاوز للحدود المعتادة .... و من طريف ما يحكى عن المعلمين أن أحد الأمراء دفع بابن له صغير إلى أحد المربين و أذن له فى ضربه فقام المعلم بتعليمه قضايا كثيرة و فى يوم من ذات الأيام ضرب المعلم الغلام دون أى سبب ظاهر أو خطأ فتعجب الغلام لذلك و بكى ثم دارت الأيام و تولى هذا الغلام إمارة البلاد خلفاً لوالده فكان أول ما فعل أن استدعى المعلم و سأله عن سبب ضربه له فلم يكن قد أخطأ فى شئ فقال المعلم إننى كنت أتوقع أن يؤول إليك الحكم لأنك ولى عهد أبيك فأردت أن ألقنك درساً وقائياً حتى لا تظلم أحداً بعد أن ذقت مرارة الظلم فانظر كيف علق الأمر فى ذاكرتك حتى الآن بالرغم من مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة فقبل منه العذر بعد أن عرف سر هذا الدرس و هو إجتهاد من المعلم فى حالة ولى العهد فحسب .... إننا اليوم بحاجة إلى أن يشعر حكامنا و المسئولون فى بلادنا بمرارة الظلم التى يعيشها المواطن و لكن كيف و قد فات أوان التربية !! 7- عصا الدابة و نقصد بها ذلك الحق المشروع لرائض الدابة و مستأجرها فى التأديب و الكبح بقدر ما جرت به العادة فإذا تعدى بالزيادة كان ضامناً و لقد صح عن النبى صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخارى أنه نخس بعير جابر و ضربه ] .... و إذا كان الله تعالى قد سخرالدواب لخدمة بنى الإنسان أرسى لها أيضاً حقوقاً فى الإطعام و الراحة و عدم تحميلها فوق الطاقة بل و نهى عن وسمها فى وجهها بالنار و أيضا عن لعنها . و المراجع لمهام المحتسب يجد أن من بينها رعاية حقوق الحيوان على النحو الذى بيناه .... و فى الختام نكون قد استعرضنا للعصى المشروعة التى أجازها الشارع فى التأديب و هو العليم الخبير بالنفوس و ما فيه صلاحها بالضوابط التى تم إيضاحها فلا ينبغى الالتفات إلى دعاوى وقف هذه المعالجة بدعوى حقوق الإنسان أو الحيوان فكل ذلك يصب فى النهاية إلى مزيد من الأخطار على دعائم مجتمعاتنا الإسلامية إن المسارعين إلى تقييد هذا الحق عليهم أن يكفوا و يتوجهوا إلى تقييد العصا الأمنية التى استفحلت و تضخمت و صارت قوة باطشة تقتحم البيوت بالليل و النهار و تعذب المواطنين و تقهر الخصوم و تحمى المفسدين فى الأرض . إن حديثى فى هذا المقال ربما يبدو شائكاً لأنه فى المساحة التى تتصدى لها العديد من المنظمات الحقوقيه و لكن هذا لا يعنيينى لأن نصرة هذا الدين و الدفاع عن شريعة الإسلام من الواجبات التى لن نتأخر عن أدائها و سوف تتضح الحقائق بعد مدة من الزمان تدرك فيها العقول ما هو الأنفع للمجتمع و الأصلح له و ما كان لنا أن نجرب و نختار و معنا المنهج الرشيد و يكفينا قول الله تعالى [ و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ] فليس لنا أن نختار بعد أن جاءنا القول الفصل من صاحب الأمر و النهى ؛ هذا و صلى الله و سلم على سيدنا محمد ؛