هل تذكر مسلسل "البحار مندي" الذي عرض منذ عشر سنوات، وقام ببطولته الفنان "أحمد عبد العزيز"، ونال حينها قدرًا كبيرًا من الاهتمام والمتابعة؟ هل تصدق أن البحار مندي هو شخصية حقيقية تعيش بيننا في هدوء وصمت بمدينة الإسكندرية، بالرغم مما قام به من بطولات أسطورية، بدأت بمقاومة الاحتلال الانجليزي، مرورًا بحرب فلسطين والعدوان الثلاثي، انتهاء بحرب الاستنزاف والعبور في العام 1973. (ارفع شراعك يا بطل وري الأمم... لو كان بيدي لرسمت صورتك ع العلم... راجل عرف معنى السلاح... راجل فهم للمعنى حي على الفلاح... راجل رفض طعم الإهانة من الرمم... ربك رايد لك يا أسد إنك تعيش... تحكي الحكاية من مطوبس للعريش... يامه يا مصر قومي احضني أيمن حسن... حيي الشهيد الحي فوق كل المحن... دي ما كاتش لحظة في انفعال... ولا كان تصرف بارتجال... يا بختها أم الرجال... أم البطل أيمن حسن) هذه الكلمات التي خطتها يد القارئ العزيز "أبو علاء المصري"، تعبر بصدق عن مشاعر الكثيرين ممن تأثروا ببطولات الجندي المصري "أيمن حسن"، الذي استطاع بمفرده قتل 21 إسرائيليًا، ولكن الأكثر روعة هي الإيجابية الواضحة التي عبرت عنها العديد من الرسائل، والتي طالب أصحابها بالتواصل مع البطل، وتقديم يد العون له، بل إن هناك من أرسل يعرض له وظيفة محترمة بالسعودية، وهي في مجملها مبادرات تؤكد أن المجتمع المصري بخير، وأن هناك الكثير ممن يقدر قيمة البطولة، ويعرف النجوم الحقيقية التي تملأ سماءنا، ولكنها تحتاج فقط لمن يزيل السحاب والغبار عنها، وقد شاءت الأقدار أن تجمعني بنموذج آخر من هؤلاء الأبطال المنسيين في تاريخنا. لم أصدق أن ذلك الرجل قد قام بكل تلك البطولات والإنجازات التي لو تم تجميعها لملأت عشرات الكتب، صحيح أن سنوات عمره قد جاوزت ال87 عامًا، ولكنه وبالرغم من كل شيء يبقى مصرًا على أن يعمل ويثابر، ليكسب لقمة عيشه بنفسه حتى الرمق الأخير، إنه "القبطان مندي" الذي أتعب الإنجليز، وأرهق الإسرائيليون فعجزوا عن القضاء عليه، ونال نوط الشجاعة من كل رؤساء مصر. ولد "مندي متولي" في العام 1923، ونشأ وترعرع في مدينة الإسكندرية على حب البحر، والرغبة في خوض غماره، كما تلتقط ذاكرته في الأيام الأولى لطفولته وفاة سعد زغلول وما تلاها من أحداث، عايش الحرب العالمية الثانية والتي كانت فيها مدينة الإسكندرية مسرحًا للأحداث والعمليات العسكرية، وكان يشعر بالمرارة وهو يرى الإنجليز سببًا في معاناة جموع المصريين، ولذلك فقد وضع نصب عينيه أن يقاوم الاحتلال الإنجليزي بكل وسيلة ممكنة، قرر أن يخدم وطنه ويمارس عشقه للبحر من خلال انضمامه لسلاح البحرية في الجيش المصري عام 1938، حيث سطر بطولاته من ذلك الحين، كانت واحدة من أصعب اللحظات في حياته حين تقرر اعتقاله في البحر، والزج به في السجون، ولكنه وبالرغم من كل شيء استطاع مغافلة حراسه، ولم يجد أمامه سوى القفز في البحر والسباحة حتى الإسكندرية، لمسافة تزيد عن 800 كيلومتر صارع خلالها الموت عدة مرات، ولكن الله تعالى كتب له النجاة، ليبدأ صفحة جديدة من حياته قدم خلالها كل التضحيات الممكنة من أجل الوطن. حين تتحدث مع القبطان مندي، فلا بد أن تسمع منه كلمته الشهيرة والتي يتفاخر بها دومًا: (البحر يكره الجبناء، والجبناء يكرهون البحر)، ولم لا؟ وهو الذي شارك مع البحرية المصرية في جميع الحروب التي خاضها الجيش المصري على مدار خمسين عامًا، وتركت علامتها المميزة على يده، التي أصيبت بطلق ناري خلال واحدة من تلك المعارك، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في مسيرته الحافلة، فخلال فترة حرب الاستنزاف كان موجودًا على جبهة القتال مع العدو في مدينة بورسعيد والسويس، حيث قامت الوحدات البحرية الخاصة بمهمة سد فتحات "النابالم" في قناة السويس، وكذلك الهجوم على المواقع البترولية والحفارات البحرية في منطقة (أبو رديس) و(بلاعيم)، وكانت هذه المنطقة تضم حفارات بترول مصرية إيطالية ضخمة تقوم بالعمل في أكبر بئرين للبترول، وبعد النكسة استغلت إسرائيل هذه الحفارات وبدأت في استخراج البترول ونقله إلى إسرائيل، فطلب الرئيس السادات نسف هذه الحفارات والمنطقة كلها، ونجحت القوات البحرية قي ذلك نجاحاً ساحقًا، ولا زال التاريخ يذكر ما قامت به الفرقاطة البحرية "بورسعيد"، والمدمرة "السويس"، في الدفاع عن قاعدة بورسعيد البحرية، وصد الهجوم عن "رأس العش"، ثم قصف مدينة "رمانة" و"بالوظة" علي الساحل الشمالي لسيناء. إذا كنت ممن تابعوا مسلسل "البحار مندي" بإعجاب، وعشقوا تلك الشخصية وبطولاتها، فلك أن تعرف بأن صاحب تلك الانجازات حي يرزق بيننا، صحيح أن المسلسل قد بالغ كثيرًا في التركيز على شخصية حبيبته "زغدانة"، ولكن المفاجأة أن تلك الشخصية غير موجودة في الواقع، كما أن جميع المغامرات النسائية في المسلسل لا ترتبط بالقصة الحقيقية لصاحبها، بقدر ما ترتبط به البطولات الوطنية الحافلة، ولكن لأن الراحل "صالح مرسي" مؤلف قصة المسلسل، ومؤلف مسلسلات الجاسوسية الشهيرة مثل "رأفت الهجان"، كانت تربطه علاقة صداقة قديمة بالبحار مندي، منذ أن كانا زملاء دراسة، فقد حرص الكاتب الراحل على تخليد اسم "مندي" من خلال ذلك العمل. كثيرة هي النماذج المشرقة في حياتنا، والتي تعطي المزيد من الأمل والحماس في نفوس أجيال جديدة من الشباب لم تسمع عن تلك البطولات، ولم تشاهد أولئك العمالقة، دعونا نتذكر هذا الرجل ونحييه وهو ما زال بيننا، إن كان هو قد اختار أن يحيا أيامه بهدوء كحارس أمن لنادي الكشافة البحرية في مدينة الإسكندرية، إلا أنك تجده الأكثر التزامًا بوجباته ومواعيده، بالرغم من تقدم العمر به، ليستمر في تقديم نموذج الانضباط والرجولة لكل من يعرفه، ولا أجد أفضل من كلماته التي يرددها دومًا، وطلب مني كتابتها لكل شاب مصري: "اعلم أن الرجال يموتون في سبيل المبادئ، فلتكن رجلا ومت في سبيل الله من أجل مصر" [email protected]