عن طريق المصادفة شاهدت مساء الجمعة الماضى أولى الحلقات التى خصصها برنامج: "علامات" الذى يقدمه الروائى المعروف الأستاذ جمال الغيطانى على قناة النيل للأخبار، للحوار مع الصحفى المعروف الأستاذ لويس جريس ، وقد جذبتنى تلك الحلقة إليها منذ بدايتها فتابعتها إلى نهايتها بشغف شديد، وأظننى سوف أحرص حرصا شديدا على متابعة باقى حلقاتها التى تم التنويه عنها ...ربما لا يشاركنى البعض فى بعض عوامل إعجابى بذلك الحوار لكن الكثيرين فيما أتصور سوف يجدون فيه بالقطع ما يشدهم إليه ، كان الحوار شديد الغنى مفعما بالذكريات الحية النابضة المشحونة بالدلالات الإجتماعية والسياسية والثقافية ، وقبل ذلك وأهم من ذلك الدلالات الإنسانية الخالصة ، وبالنسبة لى شخصيا فقد كانت الحلقة التى شهدتها مرتبطة بأماكن أعرف الكثير منها وقد كانت لى فى بعضها ذكريات باقية ...كان الأستاذ لويس يتكلم عن نشأته وصباه فى مدينة: "أبى تيج" القريبة جدا من مدينة "البدارى" التى ولدت فيها وعشت فيها جانبا كبيرا من طفولتى وصباى ، وقد كنا نحن أبناء البدارى نطلق على أبى تيج وعلى سائر البلاد المحيطة بها : "بلاد الغرب " !!، والغرب المقصود هنا هو غرب النيل ، الذى ما كان بوسعنا أن نصل إليه إلا بالمعدية أو بالدوران مع الطريق البرى إلى أقرب كوبرى على النيل وهو كوبرى أسيوط ، فيما بعد شاء لى قدرى أن أؤدى امتحان الثانوية العامة فى بلاد الغرب!!، وعلى وجه التحديد فى مدينة "أبى تيج" باعتبارها أقرب لجنة امتحان إلى مدرسة البدارى التى لم يكن عدد طلابها القليل حينذاك يستوجب فى نظر المسئولين عقد لجنة امتحان مستقلة ... أعتذر للقارىء عن هذا الإستطراد وأعود إلى الحلقة الممتعة التى شهدت حوار الغيطانى مع جريس ، وأتوقف بوجه خاص عن طبيعة العلاقة بين المسلمين والأقباط فى تلك الحقبة التى كان يتحدث عنها جريس والتى يمكن أن نطلق عليها بوجه عام: "حقبة الصعود" والتى تمتد منذ ثورة 1919حتى نهاية الستينات أو بداية السبعينات من القرن الماضى حين بدأت حقبة جديدة لا أجد وصفا لها جديرا بها سوى أنها حقبة الهبوط والإنكسار ، تكلم جريس عن أهم المشاهد الفولكلورية التى كانت ومازالت تعرفها إلى يوما هذا مدينة أبى تيج وأعنى بها مولد : " السلطان الفرغل " ..أحد أولياء الله الصالحين فيما هو مستقر فى الوجدان الشعبى ، حيث يطوف المحمل الفرغلى فى شوارع أبى تيج مشاركا فيه المسلمون والأقباط جنبا إلى جنب ، وحيث يقوم الصبية بتشمير حجور جلابيبهم لكى يصبح كل منها أشبه ما يكون بالقفة التى يتلقف فيها ما تلقى به النسوة من البيوت على الموكب من المنون : " الكعك الصغير الحجم " ، ولقد روى الأستاذ جريس واقعة طريفة أراها بالغة الدلالة فى التعبير عن واحد من أهم مكونات الوجدان الشعبى ، ففى أحد الأعوام عندما اقترب الجمل الذى يحمل المحمل ، عندما اقترب من دير أبى مقار توقف وضرب قلة ( "ضرب الجمل قلة"، تعبير صعيدى يعنى أن يقوم الجمل بإخراج لسانه منتفخا على نحو يشبه القلة مع إحداث صوت يشبه البقبقة أو القعقعة ) ... يحدث كثيرا فى ريف مصر وفى صعيدها أن يشعر المشيعون فى جنازة ما وكأنما هناك ثقل قد طرأ النعش الذى يحملونه، وينتابهم إحساس بأن المتوفى يرغب فى تغيير مسار الجنازة لكى يلقى تحية الوداع على واحد من أصحابه أو أحبابه ، وحينئذ يتجهون بالجنازة إلى الوجهة التى يشعرون بأ ن المتوفى يرغب فى الإتجاه إليها!!، وهذا هو ما حدث فى حالة مشهد تشييع الفرغل فى ذلك العام، طبقا لما يرويه الأستاذ جريس فقد هتف الناس بشكل تلقائى : الله أكبر ..الله أكبر، واتجهوا نحو دير الأنبا مقار وهم يرددون : " الله أكبر ..حبيبك الفرغل ،جاى يسلم عليك " [email protected]