هذا التساؤل الذي طالما حاول الكثير من المفكرين والكتاب ان يجدوا إجابة واضحة شافية، علهم بعد أن شخصوا الحالة يجدوا لها علاجا شافيا... لكن في رأيي الشخصي، أن ما حدث ويحدث للمصريين هو نفس ما كان يحدث لهم منذ قديم الأزل.. لم تتغير الشخصية المصرية.. المصريون ثابتون، لا يتغيرون، وكل العالم من حولهم يتغير... وهنا مكمن المشكلة وموطن التشخيص.. البيئة المحيطة بأي انسان يعيش في مصر تجبره على التحرك في دوائر ثابتة، والتخلق بأخلاق باتت معروفة، والتصرف دائما وفق نظرية رد الفعل.. ونادرا ما تجد انسانا له خطة او له هدف .. واذا وجدته، فلن يستطيع هو نفسه ان يحقق هدفه وخططه بطريق مستقيم وبصورة صحيحة.. الحياة في مصر تجبر الانسان على الانحراف، أيا كان شكله ومعدله، وتجعل معظم الناس يعيشون بلا هدف واضح، وتطحن الجميع في دوائر مختلفة الحجم من الفساد بشتى صوره.. وتحت وطأة الحاجة الملحة لكل شيء تقريبا، انحرف مفهوم الأخلاق تماما، وباتت مصطلحات مهمة مثل الفرح والسعادة أو الحزن والوقار، باتت تمارس طقوسها بصورة بشعة، فمن يفرح يجبر الجميع على الفرح معه، بمن فيهم صاحب الأحزان، ومن يحزن، يجبر الجميع على الحزن معه، بمن فيهم صاحب الأفراح.. ولعل ظاهرة الأفراح والمآتم التي تعم شوارع القاهرة ومكبرات الصوت التي تطن بما لا يتحمله عقل بشر ناهيك عن أذنه، خير دليل، بل إن إغلاق الشوارع من اجل إقامة هذه السرادقات وتعطيل المرور وتحويل المسير أصبح هو العادة التي يحرص الجميع على أن يتناوبوا عليها كأنها حق مصون أو ضرورة حياتية .. الشخصية المصرية الآن في غالبها شخصية صاخبة لا تراعي حرمة أحد ولا تسعى لحفظ الخصوصية ولا تعلم عنها شيئا أصلا بعد سنوات بل عقود كاملة من النسيان والتجاهل. حتى الدين لم يسلم .. ولم يعد من الغريب في مصر ان تجد الجميع تقريبا يحافظون على اداء العبادات في اوقاتها، لكنهم في الغالب لا يربطون بين هذه العبادات والمعاملات الانسانية التي من المفروض أن العبادات ما خُلِقت إلا لتقوم خط المعاملات، فمن لم تنهه صلاته وصيامه وزكاته عن المنكرات فلن تقبل منه، ورب راكع ساجد، وصائم قائم، لا يناله سوى التعب والجوع والعطش.. اركب سيارتك وامشي في أي طريق، لن تجد في الغالب انسانا واحد يلتزم بأي علامة من علامات المرور، وستجد، رغم تغليظ العقوبات، من يحاول جاهدا أن يهرب من تنفيذ التزامات بسيطة قد يؤدي تجاهلها إلى إزهاق الأرواح، أو إهدار الأموال على أقل تقدير.. فمازال السير عكس الاتجاه موجودا وبكثرة في الشوارع العامة الكبيرة، وربما تجد انسانا على الطريق الدائري الذي أصبح يسمى طريق الموت، اذا فاتته احد المخارج بعدة مئات من الامتار، يعطي إشارة الرجوع للخلف محاولا استرجاع المسافة التي قطعها خطأ، بالسير إلى الخلف بالسيارة معرضا حياته وحياة من معه لخطر الموت والاصطدام.. بل انظر إلى طريقة سير السيارات في هذا الطريق، لن تجد سيارة واحدة تمشي في خط مستقيم، ولن تصادف عدة سيارات تسير خلف بعضها في نظام، ولكن كأنك في سباق لا ينتهي عادة إلا بحادث مميت قاتل يزيد أرقاما في أرصدة الحوادث اليومية وضحاياها التي لا ينضب معينهم.. قال لي ابني ذات يوم، هكذا نلعب على البلاي ستيشن بالضبط، نفس هذا المنظر لا يوجد في أي مكان آخر إلا على شاشة الكمبيوتر أو في شوارع مصر. كيف يمكن أن تصلح الشخصية المصرية التي مارس الحاكم عليها منذ الازل سياساته التحكمية، وخلق حوله طائفة من المستفيدين لا يمكن أن تسمح لغيرها بالولوج إلى مصافها.. وبقية الشعب او الغالبية العظمى حيرى منكمشة في حياة هامشية لا تكاد تستبين معها معالم حياتها البسيطة الهشة القائمة على اللاشيء. أمام بيت أبي وأمي في إحدى مناطق القاهرة، وهي منطقة كانت إلى وقت قريب من المناطق الراقية قبل أن يتسلل إليها وبكثرة الباعة المفترشون للأرض وسيارات الميكروباص ماركة الحصالة، ويعلو فيها البنيان بعدما كانت كل مبانيها عبارة عن فيلات بحدائق زاهرة، أمام البيت شارع جميل تعانق اشجاره العتيقة بعضها البعض في تآلف نادر، الأمر الذي جعل الشارع في ساعات المساء واحدا من اكثر الشوارع ظلمة، تكاد لا ترى كف يديك من الظلام الدامس الذي لم يفكر احد ان ينيره ولو بشمعة.. وعلى الارض الخواء المجاورة للمنزل ارتاح للكثير ان يجعلوا من قطعة الارض الجميلة مزبلة يرمون فيها زبالاتهم يوميا تحت ستار هذا الظلام، وبعضهم بالطبع يفعلها في وضح النهار.. بدلا من ان يتقدم احد ويزرعها، وأذكر أن أمي ،بعد أن نجحت مساعي ابي في تحريك البلدية لتجريف أكوام الزبالة وتنظيف قطعة الأرض، هددت الجيران بالاتصال بالشرطة اذا توسخت هذه القطعة من الارض مرة اخرى، لكنها فوجئت بمن صرخ فيها من الجيران قائلا لو "جدعة بصحيح اتصلي بالشرطة"... الشرطة التي اصبح معظم منتسبيها، وليس كلهم بالطبع، جزءا من الفساد في مصر بل حام له.. كيف تتصدى لمحاولة شريفة لتنظيف قطعة ارض تتوسط عدة مباني سكنية حولها الجهلة إلى مزبلة أو (خرابة) كما يحلو للبعض أن يطلق عليها.. أستأذنت امي واخذت زوجتي وطفلي ونزلت اتحسس الطريق المظلم مساء، وجدت ثلاثة اشخاص يسألون عن أقرب (كوفريه) كهرباء بالمنزل، سألتهم لماذا؟؟ قال لي أحدهم كما ترى الشارع مظلم تماما والحاج (يقصد والدي) ينزل يصلي الفجر في الظلام ونريد أن ننير له الطريق !! سألتهم من أنتم وعلى حساب من تنيرون الطريق؟؟ قالوا نحن الحزب الوطني، وننير على حساب الحكومة (سرقة كهرباء يعني) قلت لهم الحاج يصلي الفجر في الظلام منذ ما يقرب من عشرين سنة! قال لي الرجل المبتسم، عشان بس يفتكرنا، انت عارف االانتخابات قربت (يقصد انتخابات مجلس الشعب) وعايزين الحج يذكرنا بالخير (لأن والدي هو خطيب المسجد الكبير في المنطقة) ضحكت وانفجرت في الرجل المبتسم قائلا، بالذمة انت مقتنع باللي انت بتقوله وبتعمله، فاجأني بنفس الابتسامة قائلا، لا والله مش مقتنع ولا حاجة، قلت له والله لو جعلتم الليل نهارا في شوارع مصر المظلمة كلها، لن ينتخبكم أحد.. ولم التفت خلفي ومشيت.. ولم ينر الطريق المظلم إلى الآن. صحفي وكاتب مصري شبكة الجزيرة الفضائية