بأخلاق النبلاء وتواضع العلماء وثقة المسؤول بنفسه وأمانته مع الحق والحقيقة تصرف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أمس مع بعض ما نشرته صحيفة الأهرام على لسانه من خلال حواره مع الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين ، وهو الحوار المطول الذي نشرته الأهرام أول أمس ، فقد جاء في الحوار المنشور فقرة صغيرة قد يفهم منها إساءة إلى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي على لسان الطيب ، فما كان منه إلا أن أرسل تعقيبا رسميا عاجلا في اليوم نفسه إلى الصحيفة ينفي فيه أن يكون قد مس القرضاوي بإساءة ، وقال في تعقيبه الجميل حرفيا :" إن الأزهر الشريف وعلي رأسه فضيلة الإمام الأكبر يكن كل التقدير والاحترام للعلامة الكبير الشيخ يوسف القرضاوي وهو من أكبر علماء الأزهر علما وسابقة, ومن أبرز علماء الأمة ومن أكثرهم صدوعا بالحق في المواقف الدقيقة" ، هذه الشهادة الرائعة والمفعمة بالتواضع والنبل من شيخ الأزهر تصدر رغم الموقف الرسمي السلبي من الشيخ القرضاوي ، وهذا ما يضيف إليها جلالا وأهمية ، والحقيقة أن الحوار الذي أجراه نقيب الصحفيين مع الطيب كان من أفضل الحوارات وأشملها ، وقال فيها فضيلة الدكتور أحمد الطيب كلاما تزين به المجالس العلمية ، من ذلك قوله "وسطية الإسلام ليست وسطية أرسطو الذي يعتبر الفضيلة وسطا بين رذيلتين, ولا هي وسطية رياضية أو حسابية, وإنما هي وسطية أخلاقية اجتماعية كونية, تنظر إلي الكون بمعيار المفاضلة العادلة بين نقيضين متضادين أن تكون ماديا حسيا كما كان بنو إسرائيل في التوراة, يحلون قتل الآخر وخداعه بل وسرقته إن كان علي غير دينهم من الأغيار أو تكون روحانيا تعطي للآخر خدك الأيمن إن صفعك علي خدك الأيسر, وإذا طلب أحد رداءك تتركه حتي لو كنت محتاجا إليه, كما تقول المسيحية أما الإسلام فيتبني قاعدة مغايرة" ، ومن ذلك قوله الجرئ جدا في إجابته عن أسباب ضعف دور الأزهر "علينا أن نتلمس الأسباب الصحيحة التي أدت قبل50 عاما إلي أن ينزوي الأزهر في ركن معزول علي حين سيطرت علي الساحة المذاهب والتيارات المتشددة ولدي اقتناع كامل تسانده الوثائق بأن النظام الحاكم في مصر أراد في هذه الفترة إضعاف دور الأزهر بعد أن اختار الاشتراكية مذهبا للحكم ليظل الأزهر مجرد مسجد ينحصر دوره في دروس الدين لأن للمعسكر الاشتراكي موقفه الواضح المعادي للدين, بدعوي أن الدين أفيون الشعوب ومن الضروري العمل علي تقليل دوره لأنه بمثابة النقيض للفكر الاشتراكي الذي يعتنق الإلحاد" ، وكذلك قوله الذي يكشف عن ثقافة شاملة رفيعة "إن العولمة سوف تفشل لأن البشر جبلوا علي الاختلاف, وأنا كمسلم لست مكلفا بأن أحمل السيف لأظهر الإسلام علي الدين كله في هذا العصر, لكن مكلف بالتعارف والتواصل وتبادل المنافع مع الشعوب الأخري, ولو أنك استعرضت القرآن آية آية فإنك لن تجد ذكرا للسيف علي الاطلاق, وهذا ما لم ينتبه إليه كثيرون, علي حين ذكر سفر يوشع في التوراة السيف31 مرة: أبيدوهم بالسيف واقتلوهم بالسيف الرجال والنساء والأطفال والحمير والبهائم وبرغم ذلك يتحدثون عن الإسلام باعتباره دين عنف!" وكذلك قوله الذي يكشف عن جرأة سياسية "أعتقد أن الغرب لاتزال تحكمه بعض الثوابت ذات الأصول الاستعمارية التي يحاولون تطويرها شكلا لتناسب القرن الحادي والعشرين فهم لا يزالون يختلقون ويصطنعون بؤر التوتر في مناطق العالمين العربي والإسلامي لترويج صناعات السلاح لديهم ولايبذلون جهدا مخلصا من أجل تسوية عادلة ومشرفة للقضية الفلسطينية" ، وكذلك في قوله المفعم حماسة وقوة عندما سئل عن إمكانية أن يقابل شيمون بيريز ويصافحه "ا استطيع أن أستقبل الحاخامات ولا استطيع مصافحة بيريز ولا استطيع أن أوجد معه في مكان واحد .. ليس لأنه يهودي ولكن لأنه أحد الذين خططوا لعدوان إسرائيل الصارخ علي الشعب الفلسطيني والاستيلاء علي القدس التي هي واحدة من أهم المقدسات الإسلامية التي أشعر بقيمتها الهائلة, ولو أنني صافحت بيريز فسوف أحقق له مكسبا لأن المعني أن الأزهرصافح إسرائيل, وسوف يكون ذلك خصما من رصيدي, وخصما من رصيد الأزهر لأن المصافحة تعني القبول بتطبيع العلاقات وهو أمر لا أقره إلا أن تعيد إسرائيل للفلسطينيين حقوقهم المشروعة". هذا بعض ما ورد في حوار فضيلة الإمام وهو من أفضل الحوارات والكلمات التي صدرت عن الأزهر في السنوات الأخيرة ولولا خشية الإطالة لنقلت عنه المزيد ، بقي رجاء لفضيلة الشيخ وهو يتحدث عن بعض التيارات الإسلامية مثل الدعوة السلفية فقد لاحظت أن "سماحته" ورحابة صدره تضيق عند ذكرها ، رغم أنه يتحدث عن غيرهم ممن هم أبعد رحما ومرجعية عن أهل السنة بلطف وحنو ، وأظن أن عباءة الأزهر وأفقه الرحب جدير بأن يكون أكثر تسامحا مع المخالفين لشيخه وأن لا تأخذنا حساسيات غير مبررة لكي نتصرف بعصبية وقسوة تخدش روح التسامح والاحتواء التي صبغت تلك المؤسسة الدينية العريقة . شكرا فضيلة الإمام على تلك الرؤية الجميلة والوعي العميق ، وشكرا على النبل والتواضع ، وشكرا لمكرم محمد أحمد على الحوار الممتع . [email protected]