لابد من الإشارة إلى أن تهالك التحالف العربي التركي ثم انهياره لم يحدث من طرف واحد، صحيح أن البنادق التي صوبت إلى صدور الحامية العثمانية خارج الحرم المكي في فجر ذلك اليوم من صيف عام 1916 كانت طعنة غدر كبرى، لكن اعتبار الحادثة سبباً لكل ما تلا إفراط في التبسيط. صحيح أن الحادثة كانت العمل العسكري الذي أطلق سلسلة انتكاسات عسكرية عثمانية على الجبهة العربية، لكن الانحراف عن المفاهيم العثمانية في الجانب التركي كان قد بلغ مراحل متقدمة جداً، ليصبح هو الوجه الرسمي للدولة بعد الانقلاب القومي الطوراني في عام 1909، وركب حكام الاستانة الجدد العناد حيال قضايا مصيرية وإصلاحات كانت ماسة، ووضعوا أصابعم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واستكبروا استكبارا أمام مطالب ونصائح حكماء وعلماء عرب استماتوا للحفاظ على سلامة الدولة العثمانية، وكانت تلك الفترة الأشد فتكاً بالحلف العربي التركي، ارتكبت فيها أخطاء جسيمة بعضها يمكن حمله على ارتباك الأفول الأخير من عمر الدول، لكن الآخر كان محض عمى للبصر والبصيرة، وهدم للذات عن سابق إصرار. من المهم ونحن نعيد كتابة مفاهيمنا المشتركة ونطوي صفحة ماضية أن لا نترك وراءنا فقاعات تتفجر كل حين لا مغزىً منها، ومن ذلك القول بخلو ساحة الدولة العثمانية من أخطاء مع مكونات المجتمع العثماني ومنهم العرب، وذلك لسببين علميين رئيسيين: أما الأول، أنها صورة مثالية لا وجود لها في سجلات الدول، وهذه الأخطاء قد وقع مثلها وما هو أكبر منها بين العرب والعرب، وبين الأتراك والأتراك، وهي أخطاء تفسَّر ولا تبرر. الثاني وهو الأهم وحجر الزاوية في أي تحالف بين أمتين، وهو أنه لم يقع العثمانيون الأتراك والكلام ما قبل انقلاب عام 1909م في خطأ مع العرب العثمانيين بوازع عرقي أو آيديولوجي، وليس لدى الأتراك آيديولوجية كراهية تجاه العرب، أو حنين إلى أدب ما قبل الإسلام، مثلما عند الفرس الذين يدرّس أدب الكراهية واحتقار العربي في مناهجهم الدراسية كالشاهنامة للفردوسي. وكان أتراك طورانيون كضياء كوك ألب قد دعوا في ذروة الاحتقان القومي الإسلامي إلى إحياء الأدب التركي قبل الإسلام، لكنه لم يجد في الشعب التركي الحاضنة التي يبحث عنها، فوئدت الفكرة في مهدها. خلاصة - دخول الأتراك في الحياة السياسية للعرب لم يحدث في العصور الذهبية، وإنما في أكثرها سوداوية، وفي فترات تفشت فيها الشعوبية والاغتيالات السياسية والهرطقة والفلسفة. - رغم الأخطاء، فقد أقدم الأتراك على قرارات مصيرية مع العرب، لا يمكن اعتبارها في حسابات الدول إلا كارثية بحق أنفسهم، كالموقف من بيع فلسطين في العصر العثماني، ومنع الجيش الأمريكي من غزو العراق من الأرض التركية في عصر الجمهورية، فهم بين أخطاء إدارية وتضحيات آيديولوجية. - لم تكن الحقب التركية في الحضارة العربية الإسلامية حقب معرفة، بل المعروف أنها حقب عسكرية، والثابت هو أن الحقبة العربية هي حقبة العلوم والمعرفة، والخريطة السياسية للعالم الإسلامي التي بين أيدينا اليوم إنما هي خريطة الفتوحات الإسلامية في الحقبة العربية، وما سواها ارتد عن الإسلام ما خلا جيوباً هنا وهناك. - لم يجعل العثمانيون العربية لغة الدولة الرسمية، وكان ذلك خطأً باهظ الثمن، لكن العربية كانت ولا تزال موضع تعظيم عند الأتراك، وقد همّ السلطان سليم بجعلها لغة الدولة الرسمية لكن الحروب مع الصفويين أشغلته عن رغبته. مفاهيم قومية ونتائج إقليمية: أزمة العمق الإقليمي يُصنَّف الفكر القومي بشكل عام بأنه فكر أزمة، يولد في ظرف طارئ، يتحرك بالعاطفة وإثارة المشاعر ويبتعد عن الدقة العلمية، ترتفع أسهمه في المجتمع باحتدام الأزمات وتتراجع بتراجعها، وتلجأ إليه الدول كوسيلة للتعبئة الجماهيرية وتأجيج المشاعر أمام خطر خارجي، ويعتبر في عصر الكتل السياسية عقبة في طريق التكامل الإقليمي بين الشعوب. لا يمثل الفكر القومي العربي استثناء لهذه القاعدة، فلم ينهض على حقائق التاريخ وقواعد المنهج العلمي، وإنما كان ردات فعل ومواقف ساعة غضب في حقبة سياسية انتقالية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين التهبت فيها العواطف، كان فيها هذا الفكر طارئاً على العقل العربي المسلم، كما حكى مؤسسوه "الذين كانوا في الغالب من النصارى، ولم يمثلوا سواد الشعب.. وكانوا ينظرون إلى الإنكليز والفرنسيين نظرة من يريد الخلاص من حكم العثمانيين .. وغرس هؤلاء بذرة القومية العربية والوطنية وبعثوا حركة مستوحاة من تاريخ العرب ومآثرهم تستهدف مُثلاً قومية بدلاً من المُثل الدينية". (يقظة العرب: جورج أنطونيوس، بيروت 1978، ص 149-150، بتصرف). كان الفكر القومي العربي يبحث في تلك الوحشة الفكرية عن شرعية سياسية، فوجد في لافتة معاداة العثمانيين ضالته، مثلما وجدت النظم العربي في لافتة معاداة إسرائيل ضالتها في القرن الماضي، ومثلما تجدها إيران اليوم في إسرائيل في وحشتها المذهبية والثقافية مع محيطها المسلم والعربي. لم تخضع ردات الفعل تلك إلى مراجعات، وعوضاً عن ذلك، تكفل الهوى أو الجهل بالاعتناء بها، وصدرت في مجلدات منمقة، ونحتت منها مناهج تربوية تربت عليها أجيال ثلاثة، وكانت الحصيلة: شخصية عربية غير قابلة للتكامل مع جوار يشترك معها في الدين والتاريخ والمصير، محرومة من عمقها الاستراتيجي في أكثر محطات تاريخها خطورة. بسقوط جزء كبير من المشرق العربي في عام 2003 تحت الاحتلال الأمريكي الإيراني المباشر، ووقوع أجزائه الأخرى في دائرة النفوذ الإيراني، انكشف للعرب فداحة أزمة العمق الاستراتيجي الإقليمي التي أورثتها لهم دولتهم القومية الزائلة، وحجم التخلف الآيديولوجي عن خصم نضجت رؤيته الإقليمية، وتجاوز بلافتة الدين الفواصل العرقية، وغزاهم في عقر دارهم، وأحكم قبضته على المنطقة كالأخطبوط. في ظل أزمة العمق الاستراتيجي الإقليمي هذه، وإثر سقوط خط المواجهة الأمامي (العراق) وانتقال المعركة الحربية مع الشعوبية إلى داخل الأرض العربية، أرادت الأحزاب والتنظيمات القومية إعادة تموضعها خارج مدى نيران العدو، فكان اخيارها هو الدولة التي وقفت إلى جانب إيران في الطور الحربي لتصدير الشعوبية (الحرب العراقية الإيرانية)، وكادت قبل ربع قرن من الآن أن تحقق مشهد الاحتلال الإيراني الراهن، بل ما هو أسوء منه، لكونه يومئذ احتلال ينفرد بالمنطقة دون شريك أمريكي يختصم معه على الغنائم، وتقف اليوم إلى جانبها في الطور الناعم كمحطة لوجستية متقدمة لعبور الشباب العربي الذاهب للدراسة في حوزات قم وطهران، أو إلى سوح التدرب على القتال والعودة لإشعال حروب داخلية في ترمي إلى هدم المجتمعات كسبيل لولوج المشروع الطائفي، كما في اليمن والصومال والبحرين، الكويت، المغرب. وهي الدولة التي تآمرت على عروبة لبنان، وأنهت المقاومة الفلسطينة، وتتآمر على الوجه العربي السني لسوريا. في الطرف الآخر، انتقلت قطاعات أخرى في التيار القومي العربي للعمل المباشر تحت المظلة الإيرانية، واتخذت من المؤتمرات التي تنظمها طهران والفضائيات التي تمولها منصة لمخاطبة الإنسان العربي. إذا ما استثنيت البيئة العربية الممتدة على طول الصدع السياسي الفاصل بين الكتلة العربية والكتلة الفارسية الشعوبية، التي تعيش حالة استنفار دائم من الأطماع الفارسية، لا كثقافة تقرأها في الكتب، وإنما ميراثاً ميدانياً يورّثه الأجداد للأبناء، يعود إلى العصر العثماني، عندما كان أبناؤها رأس الحربة في الجيش العثماني الذي حبس المشروع الشعوبي داخل جغرافية فارس وحفظ الأمن الإقليمي. وإذا ما استثنيت بيئة وسط الجزيرة العربية، التي ظهرت فيها الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد عبد الوهاب، وامتلكت رؤية واضحة تجاه إيران والتشيّع، فإن الداخل العربي بلاد الشام ومصر الذي نشأ في كنف المناخ القوميي يمثل بيئة ثقافية رخوة، تتدنى فيها الرؤية الفكرية حول المشروع الفارسي إلى مستويات تقترب من العدم. وباحتلال العراق وانكشاف الجناح الشرقي للمشرق العربي أصبحت هذه المنطقة خط المواجهة الأمامي بما يشبه مواجهة العين للمخرز. في هذه البيئة وقع الانقلاب الطائفي في سوريا في وقت مبكر، الذي حمل الأقلية النصيرية إلى الحكم، وفيها وقع الاختراق الفارسي للكيان العربي، وأقام رؤوس جسوره وقواعده المتقدمة ومحطات تجنيد الأقلام والحناجر، وما ارتفع صوت يفضح هذا المشروع إلا سفهته الأقلام والحناجر القومية والناصرية وانتصرت للدور الإيراني وصارت حنجرته التي تنفث سمومه بلسان عربي لا لحن فيه. ومضة أمل من الإنصاف القول: يمثل التيار القومي العربي اليوم إحدى ركائز مقاومة المشروع الأمريكي، وتتعالى أصوات في أطيافه إلى استدراك تراكمات من الخلل الاستراتيجي الإقليمي، وإلى وقفة إيجابية مع تحولات الساحة التركية، وتفرّق هذه الأصوات بحكمة بين طبيعة النفوذ الإقليمي الإيراني والنفوذ التركي، وتحذر من عواقب تعثر الثاني. هذه الأصوات لا يكفيها وقف السجال الفكري العربي التركي وامتداح المواقف التركية، فاندمال الجراح، وهدأة النفوس، وأوبة الثقة، واستشعار الخطر المشترك التي دخل بها العرب والأتراك القرن الواحد والعشرين بخلاف دخولهم القرن العشرين هي خريطة لمعطيات تقتضي آيديولوجية واستراتيجية مختلفتين، وتقتضي من التيار القومي العربي دوراً في عملية البناء الإقليمي التي كان له دور في إعطابه، وذلك في عالم مشرف على تغيرات سياسية عميقة، ودلائل على مصلحة أمريكية في تصويب خلل استراتيجي عمره 14 قرن، أحدثه خروج العرب المسلمين الفاتحين من جزيرتهم وقلب المعادلة الإقليمية (الفارسية الرومية)، ما يجعل التيار القومي العربي ومشتقاته كالتيار الناصري عبءً استراتيجياً حقيقياً على الأمة في معركتها مع المحور الفارسي الرومي العائد، الذي سيكون سمة النصف الأول من القرن الواحد والعشرين على أقل تقدير، مثلما كان النفوذ الأوربي سمة النصف الأول من القرن العشرين. الأمل هو أن تتوسع رقعة الخطاب الفكري في التيار القومي العربي، فتحركه الغاية التي هي الفكرة ولا تسجنه الوسيلة التي هي اللغة ، ولا تخنقه الجغرافيا، وأن تصبح الأصوات الإقليمية في أوساطه هي الأصل وليس الاستثناء، ليغادر هذا الفكر سياقات لم تعد الجماهير ترى فيها مغزىً، ويخرج من إقامة جبرية طويلة فرضتها عليه الجماهير، ويعود لاعباً حليفاً للتيارات الوطنية الأخرى لا نداً لها. بذلك تكون الحرب الثقافية الأهلية المستعرة بين مكونات الشعب منذ نشوء الدولة الحديثة قد وضعت أوزارها، وعرفت الشعوب خصمها، وأبصرت دربها، وانصرفت للتكتل الإقليمي مع من يشترك معها بالتاريخ والمصير، ووضع نفسها على الخريطة السياسية إلى جانب الكبار.