يعد مرض الشلل اليوم من أسوأ الأمراض وأكثرها انتشاراً، وينتج غالباً عن التطور النهائي لتفاقم بعض الحالات المرضية، لعل أبرزها:جلطة الدماغ، وارتفاع ضغط الدم والحوادث الخطيرة التي يتعرض لها الناس، وقد يكون شللاً جزئيا أوكلياً يشمل الجسد كله. ولا يؤثر هذا الشلل على شخصية الإنسان وقواه العقلية والإدراكية، وكفى بالشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله مثالاً. و شلل الأجساد هذا شلل ظاهر بيّن يدركه الناس جميعاً، ويحظى المبتلى به بتعاطف المجتمع وبالدعاء له بالشفاء، وهو قدر من الله وابتلاء للإنسان يثاب على الصبر عليه. وبعض من أصيبوا بهذا الشلل قد يستفيد منهم المجتمع وربما تركوا فيه من الآثار الإيجابية ما عجز عن تركه أصحاب الأجساد الصحيحة، وما صنعه الشيخ أحمد ياسين في فلسطين ومع الشعب الفلسطيني فاق فعل الآلاف. و قد لا يستفيد المجتمع من أمثال المبتلين بالشلل، لكنهم لا يلحقون الأذى بأحد، ولا يتسببون بأي مشكلة أو ضرر للمجتمع، سوى ما يترتب على معاناتهم من مسؤوليات تجاههم تتحملها أسرهم وحدها. بيد أن المشكلة تكمن في إصابة البعض بشلل من نوع خاص، شلل يصيب العقول دون سائر الجسد، ولا صلة له بالمسببات المرضية الآنفة الذكر، لكنه نتاج حتمي لأسباب فكرية ومسببات نفسية، تهيمن على شخصية الإنسان فتشل عقله وتستبد بفكره. وهو شلل خفي غير ظاهر، لا يرى بالعين المجردة، ولا يحتاج إلى طبيب، ولا يدركه إلا أهل البصيرة والنظر الثاقب ولا يشعر به أغلب المصابين به، ذلك أن الآفات التي كانت سبباً فيه تحول دون إدراكه ولاسيما إذا اجتمعت الآفات النفسية والفكرية معاً في آن واحد، من عجب، وغرور، وكبر، وتضخيم للذات، وانفراد بالتفكير، واستبداد بالرأي وغيرها، أو استهانة بالذات، وتحجيم للتفكير، وتغييب للعقل، واعتماد على الآخرين. وفتكه بشخصية الإنسان أشد من فتك شلل الأجساد، وإذا كانت الأجساد المشلولة تجد لها كراسي متحركة تجلس عليها وتتحرك بواسطتها، فإن العقول المشلولة لا تجد ما يحملها كون شللها مستورا عن الأعين. وينعكس شلل العقول هذا على المجتمع بالكثير من الأدواء والعلل والسلبيات التي تفتك به، وكم ارتكب هؤلاء المرضى بحق الأمة من حماقات وجنايات أصابتها في عقيدتها وقيمها وأخلاقها في الماضي والحاضر. والمصابون بشلل العقول ليسوا أفراداً عاديين، بل هم شخصيات بارزة في المجتمع ومؤثرة فيه، فمنهم: الزعماء والقادة وبعض المشايخ والدعاة، وبعض المثقفين والكتاب، ورجال الإعلام والصحافة، وأتباع الأحزاب السياسية، ومقلدي المذاهب الفقهية، وأصحاب الأفكار الوضعية، ووجهاء المجتمعات البشرية، ومريدي الطرق الصوفية، وسدنة المزارات البدعية، وآيات الفرق الشيعية، ومؤيدي الضلالات العقدية، ومروجي الانحرافات الفكرية. ولكي تتضح الصورة فإني أقول مجتهداً هذه الرؤية: إن الذين انغلقوا على قناعاتهم، وتعصبوا لأفهامهم، وتعاملوا معها كمسلمات لا تقبل الحوار أو الاعتراض، هم أصحاب عقول مشلولة. وكل من عظموا غيرهم من البشر، وأضفوا عليهم العصمة والكمال، وسلموا بكل ما جاء منهم دون فحص أو نقاش أو طلب دليل، هم كذلك من أصحاب العقول المشلولة. وكل الذين انحصروا في مذاهبهم وفرقهم وأحزابهم، وأغمضوا عيونهم عما سواها، وادعوا تملك الصواب المحض والحق المطلق، وتعاملوا مع الآخرين بلغة الإقصاء، وأشهروا في وجوههم أسلحة الانتقاص والازدراء، وقذفوهم بالتهم والأباطيل الملفقة، ظناً منهم بأنهم الأفضل، فهؤلاء كذلك هم أصحاب عقول مشلولة، وكل زعيم أو قائد، اغتر بخداع البطانة وهتاف الجماهير ومديح المداحين، فظن نفسه الزعيم الذي لم يلد الزمان مثله، وأجمع الناس على حبه، وتربع على عرش سيدوم حتى النهاية له، هو كذلك صاحب عقل مشلول. وكل مثقف أو كاتب أو صاحب رأي أو داعية، ظن نفسه فريد عصره وزمانه، وأنه قد أتى بما لم يأت به السابقون واللاحقون، وأن الطريق السليم فيما جاء به، هو كذلك صاحب عقل مشلول. والذين يخافون من غير الله، ويذلون أمام طاغوت من الطواغيت، أو دعي من الأدعياء باسم الدين أو غيره، ويمرغون وجوههم عند أقدامهم رغبة أو رهبة، ويظنون أن حياتهم ورزقهم ومصالحهم بأيديهم، هم كذلك أصحاب عقول مشلولة. كما أن الذين تخيفهم سطوة القوى الطاغية، ويرتهنون أنفسهم للنظريات الوافدة، وينهزمون أمام هيمنة الحضارات الغالبة، ويبثون في الأمة روح الضعف والجبن والانهزامية، ويسوقونها نحو التسليم والتبعية ظناً منهم بأن ذلك هو طريق التقدم والحرية، هم كذلك أصحاب عقول مشلولة. وكذلك فإن الذين يتجاوزون عقيدة الأمة، ويتمردون على ثوابت الإسلام وأصول العقيدة ويتجرأون على قطعيات نصوص الكتاب والسنة، ويجاهرون بمخالفة مبادئ وتوجيهات الشريعة، بدعوى أنهم أصحاب عقول متحررة إنما هم في الحقيقة أصحاب عقول مشلولة. وبالوقت نفسه فإن الذين يقفون ضد التفكير والتجديد والآراء الجريئة، ويرفضون الإبداع بمختلف صوره، كأنما ذلك انحراف وخروج عن الشريعة، وبدعوى الأخذ بالأحوط وسد الذريعة، ولا يريدون للأمة أي انطلاقة أو نهضة، أو التخلص من التخلف والجهالة، ويريدون لها البقاء داخل الزوايا المغلقة بعيداً عن المعركة الحضارية، فهؤلاء أيضاً هم من أصحاب العقول المشلولة. والذين لا يفرقون بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، والحسن والقبيح، والفضيلة والرذيلة، والحلال والحرام، والسنة والبدعة، ويزينون رذائل الأخلاق وقبيح العادات، ويروجون لساقط القول والأدب، ويهتمون بسفاسف الأمور ودناياها، ويشغلون الناس بها، ويصرفون أنظارهم عن عظائم الأمور وكبار القضايا، هم كذلك من أصحاب العقول المشلولة. والذين غيبوا عقولهم وأدمنوا ما يذهب عنها الوعي، واغتروا بلذة اللحظة وتجاهلوا النظر للعواقب القادمة، ولم يستفيدوا من عبرة الأيام السالفة، ولم يعوا قيمة العقول الحاضرة هم كذلك أصحاب عقول مشلولة. [email protected]