هو زميل دراسة، ورفيق درب، وتوأم فكر لرائد الدراسات النووية في مصر الدكتور علي مشرفة، والبحاثة الدكتور أحمد زكي، والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني، أول مصري تخصص في فن الطيران من جامعات إنجلترا، وصديق شكيب أرسلان، وأحمد تيمور باشا، ومحب الدين الخطيب والرافعي ورشيد رضا وأقرانهم.. والمناظر القوي لطه حسين والعقاد وزكي مبارك وغيرهم، ورائد دراسات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم منذ أوائل القرن العشرين، وأستاذ الكيمياء الفحل، والناقد الأدبي، والعالم الجليل! هل سمعت به قارئي الحبيب؟ أما أنا فسمعت به وبقيمته العلمية أول مرة من العالم الرباني الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، شفاه الله وأنعم عليه بالعافية، وقيل لي إنه جد بعض أبناء غنيم من حبيبتي زفتى.. وإن بيته كان على النيل، قريبا من الإدارة التعليمية، وبيت الأستاذ الدكتور محمد الوكيل رحمهما الله تعالى... وبحثت طويلا لأجد ترجمة عنه تشبعني فلم أوفق، وطال بي هذا حتى وقع في خاطري أن أترك الكتابة عنه لطبعة لاحقة من كتابي (زفتى التي في خاطري)، لأفتش وأدقق، لكن لله تعالى إرادة تكرمني في كثيرا من الأحيان؛ إذ كَثُرَما يضع في طريقي من ييسر لي مسألة صعبة في هذا الكتاب.. وكانت المصادفة هذه المرة غريبة، إذ كنت ضيفًا في حديث الصباح بقناة الجزيرة، وتأخرت السيدة المذيعة، لتأتي عجلى معتذرة عن التأخر، فأردت أن أهون الأمر، وسألتها: من حضرتك؟ هل أنت جديدة/ أنا هبة الغمراوي، ومش جديدة/ منين/ من ميت غمر/ أهلاً وسهلا.. وأنا من زفتى/ بلد جدي؟/ جدك من؟ لعله العالم الجليل الأستاذ الدكتور العميد محمد أحمد الغمراوي؟/ هو نفسه/ سبحان الله العظيم/ ما أجمل صنع الله بي .. أنا أبحث من عدة سنين عما يشبع فضولي عنه حتى كدت أيأس/ أريد صورة له/ عندي/ أريد معلومات/ كل شيء موجود.. ما أروع أقدار الله.. وعادت إليّ همتي لأنقب عن الشيخ العظيم وحاله، وتواصلت مع ابنته السيدة كوثر، ومع حفيده الأستاذ أحمد جعفر الغمراوي الذي كان أكثر من كريم معي، وفاجأني التنقيب بقامة زفتاوية فذة عزيزة النظير.. عليه رحمات الله ورضوانه.. مع علي مصطفى مشرفة: ولأبدأ رحلتي الغمراوية من مذكرات العالم المصري المشرِّف: علي مصطفى مشرفة، رائد الفيزياء النووية في مصر.. ففي كتاب (مصطفى مشرفة) الذي كتبه الدكتور محمد الجوادي، ضمن السلسة الثقافية لطلائع مصر، ورد كثيرا ذكر الغمراوي في مذكرات العبقري مشرفة، وفيها: الغمراوي أول أصدقاء مشرفة الثلاثة، ولد في زفتى ( 9/ 6/ 1893 – 3/ 5/ 1971) ودرس بالخديوية الثانوية، ثم في مدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها سنة 1914 – في دفعة أحمد عبد السلام الكرداني، وأحمد زكي الصديقين الآخرين لمشرفة – وقد شارك عند تخرجه في تأسيس لجنة التأليف والترجمة والنشر. رشح للبعثة إلى انجلترا، وتأجل سفره بسبب الحرب، فعمل مدرسا بالمدارس الثانوية، وهناك عرف مولاي محمد علي (لعله يقصد عبد الله يوسف علي) أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية (يقصد من المسلمين)، وقد شاركه الغمراوي في مراجعتها، عمل بعد عودته من البعثة في التدريس، وفي معامل وزارة الصحة، ثم أستاذًا للكيمياء بكلية الصيدلة، حتى أحيل للتقاعد، ثم دعي إلى السعودية، 1960 حيث أسس كلية الصيدلة في جامعة الرياض، وتولى عمادتها حتى 1963 . عرف الدكتور الغمراوي باهتمامه الشديد بالبحث في علوم القرآن والدين، وكان ميالاً للتعمق في التفسير الآيات الكونية، وإثبات تطابق المعاني الواردة في الآيات مع أحدث الحقائق العلمية، التي لم تكتشف إلا في العصر الحديث، وكان حريصا على إثبات أن بعض آيات القرآن تنبأت بكثير من الظواهر الكونية التي ظلت مجهولة حتى عصرنا هذا.. من مؤلفاته : الإسلام في عصر العلم، وقد جمعه بعد وفاته زميله الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني، وفي سنن الله الكونية، والطريقة المثلي في المحافظة على كرامة الإسلام، والنقد التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي، وهو ما رد به باكرا على طه حسين.. ويظهر من اليوميات التي سجلها مشرفة في 26 يناير 1918 أن الغمراوي وبعض زملائه قد سبقوا مشرفة إلى بريطانيا، ولكن الغمراوي لم يكن قد بدأ في تأمله ودراسته لبريطانيا ونقده للحياة فيها إلا مع وصول مشرفة. ونرى الغمراوي يحادث مشرفة فيقول: في طريقي والغمراوي إلى مستر صلي قلت: ما كنتم تفعلون يا غمراوي في السنة الماضية، فكأني بكل جديد علي جديدًا عليك، قال: لقد لبثت العام الماضي أنظر إلى انجلترا، نظرتي إلى أرض كلها هُوّات وسط ليل بهيم، فأنا أتحسس سبيلي. وفي موضع آخر من مذكرات مشرفة في 10 يناير 1918 يقول معتزا بدينه: لا مبدأ أشرف من الدين، ولا عاصم إلا كتاب الله، ولا عمل هو أقوم سبيلاً، وأهدى طريقًا، من الدعاية إلى الإسلام الصحيح ومبادئه الحقة، من فعل ذلك فله إحدى الحسنيين ، وهو في الآخرة من السعداء.. فاللهم اجعلني ممن نصبوا أنفسهم لنصرة دينك وإقامة دعوتك ... وينتبه مشرفة كثيرًا إلى أن عليه دورًا في نشر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ويشاركه الغمراوي هذا الشعور، وهو يسجل في يومياته: ما أجهلَ ناشئةَ اليوم بتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا من الذين جُني عليهم في ذلك، إذ أنا أقرأ الحديث الشريف فألتذ به؛ إذ تتمثل لدي روح النبي صلى الله عليه وسلم أعاهد الله على أن أعمل على نشر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه الشريف بين المصريين عامة وعقول النشء خاصة.. والغمراوي معي في ذلك. وفي يوميات 19 يناير يشير إلى نفوره من محاولات التنصير في مصر، فيقول: أخبرني الغمراوي أن واحدة تطوعت للتبشير (التنصير) في مصر بآراء الغرب عن المرأة وتحرير المرأة كما يسمونها، قلت: هل يبعث هؤلاء القوم إلى التبشير حب الخير؟ وهل هم مخلصون؟ كما يسجل إعجابه بالغمراوي حين أدرك صلاة حان وقتها ولم يدركها هو لأنه لم يكن متوضئًا. ومن أهم ما ذكره: قر رأيي والغمراوي على أن ننهج إذا رجعنا إلى مصر منهج استكانة وتحاب مع العلماء من مصر؛ حتى نكسب ثقتهم، ويكسبوا ثقتنا، ويتشبعوا بمبدئنا القويم، ويكون همنا أن نوحد الأمة ونربط المعممين بإخوانهم الأفندية، بما يجعل لهم الثقة في نفوسهم.. ويقول: اليوم خاطبت الغمراوي في ذكر أمرين: الأول أن طلبت منه الاهتمام بوضع مصطلحات كيميائية عربية (وهو الدكتور المتخصص فيها) والثاني أن من واجبنا التجهيز للرد على الآراء المضادة للإسلام... وربما يعد الغمراوي أستاذًا للدكتور زغلول النجار في موضوع الإعجاز العلمي. يقول في حديث معه: وقد أكرمني الله تعالى بالعمل لدى جامعة الملك سعود بالرياض منذ أول إنشائها سنة (1378 ه 1958م) وحتى سنة (1381 ه 1961م) ثم في الفترة من عام (1384ه 1964م) وحتى سنة (1387ه 1967م) حيث وجد عدد من كبار الأستاذة المهتمين بتلك القضية وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم فرج، والأستاذ الدكتور محمد أحمد الغمراوي، والأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، والاستاذ الدكتور مجدي الشوا، والأستاذ الكبير مصطفى السقا، والأستاذ الدكتور أحمد محمد مجاهد، وفضيلة الداعية الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار. ويقول عنه في موضع آخر: كتبه رائعة جدًّا وقيمة رحمه الله، وقد كان معنا هنا في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، كان عميداً لكلية الصيدلة، ومن الناس الذين سعدت بصحبتهم هنا، سنة 1378ه وما بعدها، وكان الغمراوي يدرس في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر في الثلاثينيات سنه 1937م. رحمه الله. وله كتاب في سنن الله الكونية، يدل على أن الأزهريين مهتمون بالعلوم، وهذا أستاذ في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة، كان يدرس كتاباً بعنوان (في سنن الله الكونية) وهو من أجمل ما كتب في هذا المجال. كتب الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: ترك الغمراوي عددًا من الكتب والأبحاث - في غير الكيمياء - منها: • النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي ، ودبج مقدمته أمير البيان شكيب أرسلان. • من أسرار الفطرة : يذلل المعاني العلمية الحديثة المتصلة بالمادة والإشعاع / تأليف ا. ن. داس أندريد ؛ ترجمة محمد أحمد الغمراوي، وأحمد عبد السلام الكرداني . • من سوء تأويل الآي، مجلة المسلمون. • الإِسلام في عصر العلم • نماذج من الإعجاز العلمي للقرآن، إعداد أحمد عبد السلام الكرداني، عن كتابات الغمراوي. الغمراوي في سطور • ولد رحمه الله تعالى في 9/ 6/ 1893 وتوفي في 5/ 3/ 1971 . • لم يدرس فى مدرسة كشك - أول مدرسة أنشئت في زفتى سنة 1905؛ إذ أنشئت بعد التحاقه بالدراسة في مدرسة طنطا الابتدائية، وأنهى دراسته بها 1907، ثم التحق بمدرسة الخديوية الثانوية وأنهى دراسته بها 1911، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا وانتهى منها عام 1914ز • ابتعث لانجلترا - وإن أخرته الحرب العالمية الأولى بعد قليلاً – لكنه ذهب إلى هناك وزامل العباقرة الثلاثة مشرفة والكرداني وأحمد زكي، رحمهم الله أجمعين. وكان رحمه الله قد أتم حفظ القرآن الكريم فى الثالثة عشر من عمره.. • جميع إخوته الذكور درسوا بالأزهر، و أخوه الأكبر الشيخ محمود كان عضوًا في هيئة كبار العلماء بالأزهر. وقد فهمت من السيدة ابنته أن إخوته جميعًا كان اسمهم محمدًا، وقد جمعت بعض أشعار أحدهم حين كان نائبًا في مجلس بلدي زفتى. • لا تزال مكتبته الزاخرة محفوظة في منزله بحي العباسية، وإن كانت تنقصها بعض كتبه التي أعيرت ولم ترد.. • له ثلاث بنات وثلاثة أبناء، هم على الترتيب: ثريا وأحمد وكوثر وزينب وعلي ومحمد. • ليس له بيت في زفتى الآن، كما فهمت من حفيده، وموقع بيته القديم كان قريبًا من النيل، في المنطقة بين شبكة مياه زفتى والجامع الكبير.. رحم الله العالم الكبير الأستاذ الدكتور محمد أحمد الغمراوي، وأكرم مثواه.