عَلَى الرغمِ من النداءاتِ العديدةِ التي تُبديها المعارضةُ في عالمنا العربي والإسلامي لمطالبة الحكومات بإقالة المسئولين الأمنيين، وخاصةً عند وقوع تجاوزات إنسانية يرتكبها القادة الأمنيون، ومن أمريكا، التي كثيرًا ما تمنى حكامُنا الارتماءَ في أحضانها، وأن يحظَوْا بصورة مع أصغر موظفيها، وليس فقط أكبرهم، جاءنا الدرسُ الأمنيُّ عندما أعلن مدير الاستخبارات الأمريكية دنيس بلير استقالته من منصبه، في أول استقالة في صفوف كبار مسئولي إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بعد سلسلة أخطاء سجّلت لدى هذه الأجهزة وتوترات داخلية. وفي الوقت الذي ترتكب فيه أجهزة الأمن في بلداننا العربية والإسلامية العديد من الانتهاكات ضد شعوبنا وتفضيلهم للأمن السياسي ومنحه الأولوية القصوى، ليكون بديلًا عن الأمن الاجتماعي للمواطنين، كان يتم الإعلان عن حيثيات استقالة بلير في أنه "عَجَزَ عن تحقيق وتوفير الأمن لعموم الأمة الأمريكية، بعد سلسلةٍ الثغرات التي وقعت، وهي الثغرت التي تبِعتها أحداثٌ وجرائمُ أمنية، لم تصلْ إلى حدّ الكوارث، أو بحجم تفجيرات مركز التجارة الأمريكي في 11 سبتمبر من العام 2001". حيثيات الاستقالة وأَرْجعَ بلير الذي ينسِّق عمل 16 وكالة حكومية تضمُّ حوالي 200 ألف شخص، وتبلغ موازنتها 75 مليار دولار، استقالته إلى أنه "لم يكنْ لدي شرف أو سعادة أعظم من إدارة عمل الرجال والنساء الوطنيين والموهوبين جدًّا في أجهزة الاستخبارات، لقد عملتمْ يوميًّا من دون كَلَل لتأمين الدعم الاستخباراتي لحربي (العراق وأفغانستان) ولمنع هجوم على وطننا". وفي المقابل، حظي بلير بإشادة من أوباما عندما أصدر بيانًا أشاد فيه ب "أداء بلير اللافت"، مؤكدًا أن "مدير الاستخبارات أنْجَزَ مهمتَه على رأس الاستخبارات الأمريكية بكل نزاهة وفاعلية" مشيدًا بوطنيته. وجاءت استقالةُ بلير إثر فترة اضطراب شديد شهدتْها أجهزة الاستخبارات الأمريكية لا سيَّما بعد عملية القتل في فورت هود في تكساس في نوفمبر الماضي والاعتداءَيْن اللذَيْن تم إحباطُهما على متن طائرة في يوم عيد الميلاد عند الأمريكيين خلال شهر ديسمبر الماضي، وفي ساحة تايمز سكوير في نيويورك في الأول من الشهر الجاري. ولذلك سلّطت الأجهزة المعنيَّة في الولاياتالمتحدة الضوء على خَلَل خطير في عمل أجهزة الاستخبارات الأمريكية في تقرير تم نشره أخيرًا حول محاولة تفجير الطائرة الأمريكية في نهاية ديسمبر الماضي. واعتبرتْ لجنةُ الاستخبارات في مجلس الشيوخ أن "ثغرات منهجيَّة" أتاحت للمشتبه به في هذه القضية الشاب النيجيري عمر فاروق عبد المطلب أن يستقلَّ الطائرة ثم محاولة استخدام المتفجرات. وفي هذا السياق ينتقدُ البيتُ الأبيض بشدة عمل وكالات الاستخبارات، مستهجنًا النقصَ في عملية التدقيق في المعلومات وسوء الاتصالات بين مختلف الأجهزة. وقبل هذه القضية فإن إطلاق النار الذي ارتكبَه عنصر من سلاح البر في قاعدة فورت هود العسكرية في تكساس في نوفمبر الماضي، والذي أدى إلى سقوط 13 قتيلًا، أثار آنذاك انتقادات أيضًا لأجهزة الاستخبارات. ويأخذُ البيتُ الأبيض على أجهزة الاستخبارات عدم تمكُّنها من رصد مؤشرات على اتجاهِه لارتكاب هذا العمل في الوقت المناسب، لا سيَّما أن منفِّذ عملية القتل الجماعي هذه كان على اتصال مع إسلامي يوصف بأنه متشدِّد. وإلى جانب الإخفاقاتِ الأخيرة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فإن استقالة بلير يمكن أن تثير نقاشًا حول أُسس إنشاء هذا المنصب الذي تَمَّ في العام 2004 بعد فشل الأجهزة في قضية أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثرْ عليها في العراق، وتَمَّ غزو العراق تحت هذه الذريعة. وتَمَّ استحداثُ هذا المنصب لتكون هناك إدارةٌ موحدة بين أجهزة الاستخبارات، ولضمان التنسيق بين الأجهزة التي كانت تتنافسُ فيما بينها في بعض الأحيان، لكن في المقابل فإن مدير هذه الاستخبارات لم يحظ أبدًا بسلطةٍ مباشرة على الأعضاء، ولا على موازنة مختلف الأجهزة، ولا على مهمَّات التجسُّس التي تقوم بها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه). وفيما كان بلير يسعى للحصول على سيطرة أكبر على وكالة التجسُّس الشهيرة "سي آي إيه" لا سيَّما حول الضربات التي تقوم بها الطائراتُ الأمريكية من دون طيار في باكستان، حسم البيتُ الأبيض الأمر في نهاية ديسمبر الماضي الأمر لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وأبقى سلطتَها المباشرة على المهمات السرية التي تجري في الخارج، بحسب الصحافة الأمريكية. استقالةُ بلير حظيَتْ بالعديد من ردَّة الفعل داخل المجتمع الأمريكي، وخاصةً "البرلماني" فيه، فقد استهجنَ عدةُ أعضاء جمهوريين في الكونجرس إدارة أوباما في مجال معالجتِها شئون الأمن القومي، وقال السيناتور الجمهوري كيت بوند لشبكة "سي إن إن": إن "مدير الاستخبارات الأمريكية لم يحظَ أبدًا بالسلطة أو الدعم اللازمين لدفع الأمور قدمًا" مشيرًا إلى أن "حروبًا داخلية" كانت وراء قرار بلير الاستقالة. بداية النهاية وقد تَمَّ تعيينُ بلير في منصبِه المتقاعد منه في يناير من العام 2009 ليصبح ثالث مدير للاستخبارات الأمريكية، وهو المنصب الذي استُحدث بعد اعتداءات 11 سبتمبر بهدف تنسيق عمل وكالات الاستخبارات ال 16. ولد دنيس بلير عام 1947 في كيتري في ولاية ماين، وينحدرُ من عائلة من ضباط البحرية منذ ستة أجيال ويحمل دبلومة من المدرسة البحرية في 1968. بدأ حياته في هذا السلك على متن المدمرة "يو إس إس تاتنال" ثم درس الروسية في جامعة أوكسفورد البريطانية، في الوقت الذي كان يدرس فيها الطالب الأمريكي الآخر بيل كلينتون العلوم السياسية. ثم عمِل لاحقًا طيلة عام في البيت الأبيض من 1975 إلى 1976 في قسم السكن والتنظيم المدني مع إدارة الجمهوري جيرالد فورد. وأصبح الأميرال بلير لاحقًا أحد مديري رئاسة هيئة أركان الجيوش وشغل عدة مناصب في هيئة أركان البحرية ومجلس الأمن القومي، وشغل المدير الأول المساعد في فرع الاستخبارات المكلف الدعم العسكري، وعمِل أيضًا مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في التسعينيات. وتولَّى حتى عام 2002 القيادة العليا للقوات المسلحة الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ، إلى أن تقاعد في العام 2002 بعد 34 عامًا من العمل في البحرية. وتَمَّ تعيينه لاحقًا رئيسًا لمجموعة دراسات حول استراتيجيات الدفاع "معهد التحاليل الدفاعية" وورد اسمُه في قضية تضارب مصالح، وكان المعهدُ سلم وزارة الدفاع (البنتاجون) تقريرًا يوصِي بإنتاج معدات عسكرية صممتْها شركة "إي دي أو كوربوريشن" التي كان يعمل بلير لحسابها آنذاك المصدر: الإسلام اليوم