على الرغم من أن الاتفاق الثلاثي الذي وقَّعته إيران مع تركيا والبرازيل؛ لتبادل اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب بآخر عالي التخصيب على الأراضي التركية، لم يثن الولاياتالمتحدة عن التقدم بمشروع قرار دولي لفرض حزمة جديدة من العقوبات على طهران، إلا أن تأثيرات ودلالات الاتفاق تتجاوز بكثير عملية التبادل وحتى الملف النووي الإيراني بأكمله، لترسل إشارات واضحة بأن هناك قوى صاعدة بزغت على الساحة الدولية، وصار بإمكانها التفاوض باسم المجتمع الدولي لحل نزاعات كبرى، منهية بذلك حقبة طويلة احتكرت خلالها الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الحق في التفاوض والحديث باسم المجتمع الدولي، معتمدة في ذلك على امتلاكها لسلطة حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي، وفقًا لقواعد النظام الدولي الذي صاغته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. كذلك فإن هذا الاتفاق يعطي دلالة واضحة على فشل سياسة العزل والعقوبات التي روج لها الغرب كأداة وحيدة لتسوية الخلاف مع إيران، حيث قدمت طهران عبر الحوار الهادئ والبعيد عن لغة التهديد، التنازل الأهم في السنوات الأخيرة على صعيد ملفها النووي ، حتى أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو وصف الاتفاق بأنه "أهم مبادرة إيرانية في تاريخ الدبلوماسية الدولية منذ 30 عامًا". وبالإضافة لذلك فإن التحرك البرازيلي التركي يؤكد أن احتكار الدول الست الكبرى (الولاياتالمتحدةوروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا) للتفاوض مع إيران نيابة عن المجتمع الدولي لم يعد أمرًا منطقيًّا، خاصة أن معظم هذه الدول تدير الملف من منطلق الخصومة وليس الوساطة، ولذا فإن وجود وسطاء آخرين يحظون بثقة الطرفين، الغرب وإيران، بات ضرورة ملحة، وهو ما عبرت عنه البرازيل بشكل واضح عندما طالبت بضمها مع تركيا إلى مجموعة الست. نظرة للوراء ولفهم الثقل الحقيقي للتحرك البرازيلي التركي، فإن الأمر يحتاج للرجوع قليلًا إلى الوراء؛ لمعرفة أجواء التغير الذي حدث في مراكز القوى العالمية خلال العقدين الماضيين، فإذا كانت "شرعية الانتصار" قد شكَّلت الأساس الذي اعتُمد لتوزيع مكامن القوة والنفوذ في مؤسسات النظام العالمي عقب الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها سلطة "الفيتو" في مجلس الأمن، فإن العالم شهد خلال العقدين الآخرين بزوغ قوى جديدة تمتلك شرعيات مختلفة؛ فمنها من يمتلك قوة المال والاقتصاد، ومن لديه الثقل البشري والجغرافي، ومن يمسك بزمام القوة العسكرية، ومن يتباهى بقدرته على إدارة الأزمات ولعب دور الوسيط الفعال، ونجح هؤلاء بالفعل في انتزاع اعترافات متتالية وعلى أصعدة مختلفة من القوى الكبرى التقليدية بمكانتهم الجديدة، إلا أن المؤسسات الدولية مازالت حتى الآن عاجزة عن ترجمة تلك المكانة إلى صيغ قانونية. ورغم حدوث تقدُّم في بعض الملفات، مثلما جرى مؤخرا من إعادة توزيع حصص التصويت داخل البنك الدولي، لتعكس –ولو جزئيا- الثقل الاقتصادي المتصاعد لبعض الدول، إلا أن الأمر مازال متعثرا في ملفات جوهرية، كما هو الحال بخصوص توسيع عضوية مجلس الأمن، ومنح حق النقض لدول أخرى. هذا التعثر لم يحُلْ دون قيام الدول الصاعدة بأدوار على أرض الواقع تعكس مكانتها الجديدة، وهذا ما تفعله تركيا منذ سنوات في الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى، وتمارسه البرازيل في أمريكا اللاتينية والوسطى، وتقوم به جنوب أفريقيا في أفريقيا ما وراء الصحراء، وفي آسيا تتحرك الهند بقوة، إضافة إلى الصين التي تخلت كثيرًا عن عزلتها، وبات تلعب أدوارًا أكثر فعالية لتعكس بشكل عملي كونها إحدى القوى الكبرى التقليدية. البرازيل نموذجًا وتجمع بين هذه الدول عدة خصائص مشتركة، فهي تمتلك بنية ونظام سياسي مستقر، حيث توجد آليات واضحة ومجربة لتداول السلطة، كما أنها تتمتع بنمو اقتصاد قوي ومنتظم، ولديها خطط اقتصادية طموحة، كذلك تتميز بتبني سياسات خارجية تعلي من قيم الحوار والتعاون لتعظيم المصالح المشتركة، مع تجنب التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وذلك في مقابل سياسة الدول الكبرى القائمة على المقاطعة والعقوبات والتلويح بالتدخل العسكري، أو حتى ممارسته فعليًّا، فضلًا عن ذلك تمتلك هذه الدول مقاربات خاصة تجاه القضايا الدولية تنبع من مصالحها وثقافتها ورؤيتها، ورغم امتلاكها لعلاقات قوية مع القوى الكبرى التقليدية، تصل لدى البعض إلى درجة التحالف، إلا أنها تنأى بنفسها عن لعب دور التابع. وإذا ما حاولنا إسقاط هذه الخصائص على دولة البرازيل، باعتبارها الطرف الأبرز في الاتفاق الذي جرى في إيران، كما أنها تعد دولة مجهولة لدى معظم العرب، الذين تقتصر معرفتهم ببلاد السامبا على نجوم منتخبها لكرة القدم، فسوف نكتشف أن بداية الصعود الحقيقي للبرازيل تعود لعام 1994 عندما تولى الرئيس هنريك كاردوسو الحكم، حيث عمد إلى ترسيخ دعائم الحكم المدني وإنهاء حالة الفوضى والضبابية السياسية، كما أطلق حزمة من الإجراءات الاقتصادية التي عززت معدلات النمو، بحيث حافظ الاقتصاد البرازيلي في العشرين عاما الأخيرة على معدل نمو تجاوز الخمسة بالمائة، بما في ذلك أعوام الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2007، ما يضع اقتصادها في المرتبة العاشرة عالميا من حيث مؤشرات النمو، وساعد على ذلك إبقاء الرئيس الحالي "لولا دا سيلفا" عند وصوله للحكم عام 2002 على السياسات الاقتصادية الليبرالية لسلفه كاردوسو، رغم انتماء دا سيلفا للمعسكر اليساري. صعود قوي وكان من نتائج ذلك صعود الناتج الإجمالي للبرازيل في السنوات الأخيرة ليقترب من تريليونين دولار، كما تمتلك البلاد احتياطات نقدية تقدر بنحو 200 مليار دولار، ما يمنحها استقرارًا ويحصن اقتصادها من الأزمات والتقلبات المفاجئة، ونجحت البرازيل رغم الأزمة المالية العالمية في جذب استثمارات أجنبية مباشرة عام 2007 بقيمة 37 مليار دولار، وهو ضعف المبلغ الذي تم جذبه عام 2006. ويكمن تميُّز النمو الاقتصادي للبرازيل في وصول تأثيراته إلى الفئات الأكثر فقرا، حيث تمكنت الحكومة من مضاعفة الحد الأدنى للأجور، ووفرت دخلا ثابتا لحوالي 45 مليون مواطن، وتشير الإحصاءات إلى أن دخل أفقر 10% من مواطني البرازيل ازداد بنسبة 58% بين عامي 2001 و2006، في حين ارتفع دخل أغنى 10% من المواطنين بنسبة 7% خلال نفس الفترة، أي أن الفقراء جنوا بقوة ثمار الطفرة الاقتصادية للبلاد، إذ جرى انتشال عشرات الملايين من تحت خط الفقر، ويعدُّ برنامج الحكومة البرازيلية لمكافحة الفقر والجوع من البرامج الرائدة عالميًّا. هذا الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي المتسارع عزَّز من مكانة البرازيل باعتبارها القوة الرئيسية في أمريكا اللاتينية، اعتمادا على ثقلها البشري المتمثل في مائتين مليون نسمة، ومساحة أراضيها البالغة 8.5 مليون كم، وتنوع ثرواتها الطبيعية، حيث تخترقها عشرات الأنهار، كما تغطي الغابات مساحة شاسعة من أراضيها، والتي تخبئ في باطنها ثروات معدنية ضخمة ومتنوعة. دبلوماسية نشطة وعكسَت السياسة الخارجية للبرازيل خلال عهدي كاردوسو ودا سيلفا كل هذه المعطيات، حيث تحركت الدبلوماسية البرازيلية بشكل نشط المحافل الدولية بوصفها ممثلة لأمريكا اللاتينية، أما على الصعيد الاقتصادي فقد نشطت في تشكيل تحالفات دولية للدفاع عن مصالح دول الجنوب الصاعدة والنامية في مواجهة الشمال الغني، حيث لعبت البرازيل دورًا فاعلًا في تشكيل مجموعة العشرين للتعبير عن مصالح الدول النامية خلال مفاوضات التجارة العام عام 2003، كما انخرطت في إطار تشاوري رباعي مع روسيا والهند والصين تحت اسم (BRIC ) . أما على صعيد أمريكا اللاتينية فقد استفادت البرازيل من تراجع النفوذ الأمريكي في القارة بفعل صعود التوجهات اليسارية بمعظم دول القارة، ثم جاء صعود دا سيلفا اليساري إلى الحكم ليؤكد زعامة البرازيل للقارة رغم منافسة نظيره الفنزويلي هوجو شافيز، خاصة في ظل سياسات دا سيلفا الهادئة والتوافقية، ما مكنه من لعب دور "صانع السلام" بين دول القارة، على غرار وساطته الناجحة لحل الخلاف الحدودي بين فنزويلا وكولومبيا عام 2008. ويلاحَظ أن تحركات البرازيل بين جيرانها انطلقت من زاوية تعظيم المصالح الاقتصادية بين بلدان القارة، حيث جرى طرح عدة مبادرات مثل السوق المشتركة بين دول أمريكا الجنوبية "ميركوسور"، كما تعطي الشركات البرازيلية أولوية لشراء منتجات الدول اللاتينية حتى لو كانت أعلى سعرًا من نظيرتها في العالم. وبالتوازي مع ذلك حافظت البرازيل على علاقة مستقرة مع الولاياتالمتحدة، باعتبار ذلك ممرا إجباريا للحفاظ على الاستقرار في القارة اللاتينية، وساعد على ذلك العلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين. الحوار أولًا وبشكل عام فإن مجمل المواقف البرازيلية تجاه القضايا الدولية المثارة صبت في تجاه تعزيز المصالح المشتركة بين دول العالم، والتأكيد على الحوار والدبلوماسية كوسيلة لحل الخلافات، وهو نفس النهج الذي اتبعته تجاه إيران وملفها النووي، حيث حافظ الرئيس دا سيلفا على علاقات نشطة مع إيران ورئيسها أحمدي نجاد، رغم الضغوط الأمريكية الرافضة لذلك، ثم عندما سنحت له الفرصة وأبدت طهران تجاوبًا مع عرضه للوساطة، فإنه لم يتوان عن الذهاب لطهران والتفاوض على اتفاق قابل للتنفيذ، ويمكن تسويقه لدى الغرب والوكالة الذرية، شرط جدية إيران في تنفيذ بنود الاتفاق. وبغضّ النظر عما سينتهي إليه الأمر، فإن تحرك تركيا والبرازيل نزع من الولاياتالمتحدة لافتة "طمأنة المجتمع الدولي ونزع شكوكه تجاه برنامج إيران النووي" التي تتخذها ذريعة لتصعيد العقوبات على طهران، فلم يعدْ من حق الغرب احتكار الحديث باسم المجتمع الدولي، خاصة أن هناك قوى ذات ثقل مثل تركيا والبرازيل تقول إن إيران أبدت تجاوبا مع الحوار، ما يستوجب تعزيز ذلك المسار، والتوقف عن مسار العقوبات. المصدر: الإسلام اليوم