الداعية الشهير فضيلة الشيخ عائض القرني دعا في حلقة فضائية أخيرة له في الأسبوع الماضي إلى هدنة وتطبيع بين الإعلاميين والمثقفين من جهة، وبين الشرعيين والدعاة من جهة أخرى، وإيقاف هذا الاحتراب والترصد للأخطاء الذي نشهده في ساحتنا الفكرية والإعلامية من كلا الطرفين.. دافعُ الشيخ الملهم هو أن الوطن بحاجة إلى توحيد الجهود والاصطفاف خلف راعي نهضتنا، والدنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله وهو يسابق الزمن لإلحاقنا بركب الحضارة والمزاحمة الأممية، فأمثال هذه المماحكات التي تشهدها الساحة المحلية، تفرّق القلوب وتنافِرها، وتبعثر الجهود في احترابات هامشية تنعكس سلباً على مسيرة النهضة.. المفكر الكبير د. عبدالله الغذامي -في ذات الحلقة- وإن رأى أن هذه الدعوة تصطبغ بالمثالية، إلا أنه طرح بأن يصدح كل إنسان برؤيته في جو من الحرية الخلاقة، وطالب بأن نعتاد على هذا الاختلاف الذي يؤدي في مآلاته إلى إثرائنا فكرياً وسلوكياً، ما ينعكس إيجاباً؛ يطرّد في تقدمنا في مسيرة النهضة.. ربما كانت لكاتب السطور رؤية تتمثل في أن يتجه رموز التيارات، من أولئك المهمومين بالوطن حقاً، لا دعاة الزيف والتسلق والصعود عبر أمثال تلك المعارك، إلى القضايا الوطنية الكبرى التي تهمّ في صميمها كل الوطن وشريحة المواطنين البسطاء، وأن تتكاتف الجهود وتتجه إلى مناقشة تلكم القضايا؛ وهي من الكثرة بمكان بما لا يسمح أن ننشغل بالهامشيات والثانويات على حساب الأهمّ، ودونكم مثالاً في هذه الحرب الخلّاقة على الفساد، الذي يقوده ولي أمرنا بإصرار وحزم، وتوّجه الأسبوع الفارط بالأمر الملكي الكريم؛ بتحويل المتهمين في فاجعة سيول جدة لهيئة الرقابة والتحقيق تمهيداً لمحاكمة من ثبتت عليه التهم. إن التركيز على أمثال هذه القضايا الكبرى ومناقشتها، والتواصي بمناصرة ومعاضدة الملك عبدالله في مسعاه بالحرب على الفساد، والدعوة إلى اجتثاث ثقافة سرقة المال العام في محيط وزاراتنا، بحيث بات من أولويات معظم من يصل للمنصب أن يسرق ما أمكنه خلال سنوات تسنمه المنصب، بل والأدهى أنه يُشرعن تلك السرقات بحجة أنه مال الشعب، وله حقّ فيه بما يفعل المسؤول الأكبر منه في وزارته أو المسؤول الذي أتى بديلاً عنه. فقضية صيانة المال العام من لصوص الوطن هؤلاء، فضلا عن دعوات الإصلاح وترسيخ الوسطية والحوار في مجتمعنا، والحرب على الإرهاب التي تأتي في مقدمتها، لهي قضايا تشترك معظم التيارات ورموزها في الإيمان بضرورتها، والقناعة بترسيخها والعمل بها، وهي لعمرو الله توحّد الأنفس، وتصفي القلوب، ويعود خيرها علينا جميعا، ابتداء من المواطن البسيط الذي يسكن العشش في أقاصي قرى جازان أو بيوت الصفيح في عرعر، ومرورا بشرائح ذوي الدخل المحدود، حتى خريجي طلاب الجامعة العاطلين أو العاملين، وانتهاء بالمسؤول الرفيع في منصبه. هذه القضايا الوطنية الكبرى هي أحق كثيرا من الاحترابات الهامشية التي تمضي فيها الأعمار وعزيز الأوقات في قضايا ثانوية، لا تماثل – مهما كان حجمها– أمثال تلكم القضايا الأهمّ التي تتعلق بالمواطنين وحقوقهم.. أمام كل المحبين لوطن الرسالة والنهضة، فرصة تاريخية لترك الإحن الشخصية والرؤى المنغلقة على الذات، وتجاوز الاختلافات مع بعض مخالفيهم، والاتجاه نحو تعزيز وتجذير ثقافات نحن في مسيس الحاجة إليها في عصرنا الحاضر، ولن تكون ثمة نهضة وقفزة في السلم الحضاري الأممي التي يتوخاها ولاة الأمر إلا بوجودها، والتي بدورها لن تتأتى إلا بالتجرد الحقّ، من لدن النخب والمفكرين والدعاة، وتمثّلْ المسؤولية وثقلها تجاه وطن هو في الصميم من قلوبنا. ليتنا نتجه في مقالاتنا بالصحف، ودروسنا في القاعات الأكاديمية، وخطبنا ومواعظنا في مساجدنا ودور العلم إلى تعميم ثقافة النزاهة، وثقافة حراسة المال العام، والحرب على الفسدة والمطالبة بمحاكمتهم، والالتفات إلى ضرورة تضمين مناهجنا الدراسية بأمثال هذه الموضوعات التي تغرس في نفوس الناشئة خوف الله تعالى، ومسؤولية كل فرد في المحافظة على المال العام. هناك قضايا ممتدة لا تنتهي، يستطيع المثقفون والدعاة الاهتمام بها بما يعود لصالح مجتمعنا، ودونكم قضايا الخلع والطلاق، وزواجات النسب، والرشوة المتفشية في كثير من مؤسساتنا، وثقافة وأد الفتيات الجديد أو حبسهن دون زواج بسبب طمع في مالها أو لأفكار قبلية بالية هي مضادة في أصلها للشرع الحكيم، ولعمرو الله لو تمثلنا مسؤوليتنا الوطنية، وباشرنا طرق هاته القضايا بدلا من الانشغال بالترصد لخطأ داعية شردت منه كلمة لم يقصدها، فنقيم الحسينيات الإعلامية عليه، ونتهمه ظلماً بتزوير حديثه ومقصده، أو الترصد لكاتب نخالفه، ونصدر بياناً لم نصدر مثله في دويّه وقوته في مسألة أعظم وأهمّ كالفساد، وليتنا اتجهنا لنصرة المرأة المظلومة تلك التي يتلذذ رجل سادي، لا يخاف الله، بتعليقها طيلة عشرين عاما، ليمضي أزهي فترات شبابها أمام عينيها، ويتبدد أخصب أيام عمرها تحت سمع المجتمع وبصره. لست بدرجة من المثالية، لأعتقد أن جميع النخب والدعاة وطلبة العلم سينسلكون في مثل هذه التوجه الوطني، ولكني على يقين بأن الكثرة من أولئكم الذين يمتثلون أوامر الشرع ويدعون لقيمه، ويعشقون هذا الوطن وخيره، ستصل إليهم الرسالة ويؤمنون بمراميها. * إعلامي سعودي [email protected]