هل المصريون شعب فاقد للذاكرة؟!.. لماذا نستكثر على أنفسنا التقدم إلى الأمام، وكلما تقدمنا خطوة نُسرع بالعودة إلى نقطة الصفر؟! لقد حدث ذلك عشرات المرات منذ عام 1952 وحتى الآن، وصرنا نلدغ من الجحر الواحد عدة مرات.. ولا نتعظ؛ وهذه بعض الأمثلة: في الستينيات كانت مصر أكبر الداعمين لحركات التحرر ضد القوى الإمبريالية.. ثم انقلبنا للتحالف مع الإمبريالية ضد أبناء جلدتنا من العرب والمسلمين - وكان لدينا تعليم متقدم يجتذب طلاب العلم من أنحاء العالم.. ثم انحدرنا بكل جدارة إلى الصفر الطلق في التعليم وصرنا نُخرّج أنصاف متعلمين - وكان المصريون هم الأوائل في مجالات العلوم والثقافة والفنون والآداب وغيرها.. ثم اختفى كل ذلك - وكانت الأفلام المصرية هي المصدر الرئيس للثقافة والترفيه بين العرب وغيرهم.. ثم صارت مصدرًا للإزعاج والإسفاف وتم هجرها - بدأنا نهضة صناعية وصلت إلى تصنيع محرك الطائرة والصواريخ وغيرها.. ثم اختفى كل ذلك وبيعت المصانع بأبخس الأثمان - سبقنا الهند وباكستان وكوريا والأرجنتين في بدء الاستفادة من التقنية النووية.. وسبقونا جميعًا وعدنا إلى الصفر - تعودنا على مسح إنجازات السابقين.. وكلما جاء مسئول؛ صغر أم كبُر، لابد أن يزيل أثار من قبله ويبدأ من الصفر - بدأنا نهضة زراعية متقدمة كانت توفر لنا أغلب غذائنا.. ثم ضاعت الأرض الزراعية وجفت وردمت الترع والقنوات التي أنشأناها على مر الزمن، واختفت السلالات المتميزة التي كنا نتباهى بها!!.. إن هذه الظاهرة العجيبة تستحق الدراسة والتحليل.. خصوصًا بعد تلك الردة الخطيرة على ثورة 25 يناير، إذ لا يصدق عاقل أن هذه الثورة العظيمة التي احترمها وأشاد بها العالم كله قد تم مسح (كل) إنجازاتها لنعود كالبلهاء إلى نقطة الصفر! ونحن لا نتعجب من مواقف المعارضة الهمجية التي نشأت بعد الثورة.. إذ يبدو أن غياب المعارضة الفعلية لستين عامًا مضت قد أثر على الجيل الحالي، لتأتي المعارضة الجديدة - بعد الثورة - بوتيرة (المراهقين السياسيين)؛ فلو نظرنا مثلاً إلى مكونات (جبهة الإنقاذ)، وتاريخ قياداتها مع السياسة والمعارضة.. نجد أننا أمام فئات أربع: فبعضها من فلول النظام المخلوع والمستفيدين من فساده ومَن شاركوا في إفساد مصر وتخريبها ويسعون لإجهاض الثورة، وبعضها من المعارضة المستأنسة التي كانت عميلة للمخلوع وتمارس المعارضة الزخرفية (الديكورية) بالاتفاق مع النظام لتجميله بالغش والخداع، وبعضها كان من الخائفين من النظام والخاضعين له والمؤتمرين بأوامر أمن الدولة، بالإضافة إلى بعض الموظفين الذين لا شأن لهم بالسياسة ويتعلمون فينا. ولكننا نتعجب من موقف الكادحين من أبناء الشعب الذين تم خداعهم والتغرير بهم.. وإن كنا نلتمس العذر للمواطن العادي الذي عانى من الأزمات المفتعلة وتعرض لحملة تضليل شرسة، أفقدته رشده. يجب أن يدرك المواطن المصري أنه منذ انتخابات مجلسي الشعب والشورى التي أبرزت توجهات الشعب المتدين، وهناك قرار وترتيبات ومؤامرات بعرقلة تسليم السلطة للإسلاميين، ولولا أن الثورة المصرية كانت ولا تزال حية وحاضرة لحدثت العرقلة فور ظهور نتائج الانتخابات، ولكنهم وضعوا خطة طويلة الأجل ليسهل خداع الشعب الثائر.. وهذه ليست أول مرة يواجه فيها الإسلاميون هذا المنع المتكرر من تطبيق النموذج الإسلامي.. لأن المخططين والمتآمرين، يعلمون جيدًا تميز المشروع الإسلامي وقدرته على إنقاذ الوطن وتقديم نموذج يُحتذى.. وقد بدأت المؤامرة بوضع العراقيل أما الرئيس والحكومة وصنع الأزمات وتشجيع الإضرابات، والقيام بحملة إعلامية لتضخيم المشكلات ونشر الأكاذيب والشائعات والبذاءات الموجهة للرئيس المنتخب لتشويه صورته في عيون الشعب وتسهيل الانقلاب عليه.. وقد ظهرت الحقائق فور الانقلاب، إذ انتهت مباشرة كل الأزمات وكأن الانقلابيين يملكون عصا سحرية!! وعادت الشرطة إلى العمل وضرب المتظاهرين! ويجب أن نعترف أنه ما كان للثورة المضادة وأجهزة الأمن والإعلام أن تفلح في تجييش الرأي العام ضد الرئيس بهذه الصورة البشعة لولا أخطاء كثيرة سبق أن نبهناهم إليها.. كان على الإخوان أن يعوا الدرس، ويدركوا ما يدور حولهم، ويتخلوا عن سياسة حسن النية المفتوحة لمن يستحق ومن لا يستحق! وكان على الشعب أن يدرك أن الرئيس المنتخب تحمل أوزار الرئيس المخلوع، وأن فلول النظام السابق لا يمكن أن يتوبوا عن الكذب والتضليل والخداع.. وسوف يسجل التاريخ أن شعبًَا خرج يحتفل بإلغاء كل خياراته على مدار عامين ونصف! إن حالنا اليوم يشبه الحال السابق عندما خرجت بعض الجماعات عام 1954 تهتف بسقوط الديموقراطية انتصارًا لعبد الناصر ضد محمد نجيب، ليركب الجيش على أكتافنا لستين سنة كانت كفيلة بتأخيرنا لمائة سنة.. هذه أول مرة نرى شعبًا يحتفل بالعصف بثورته، يحتفل بإلغاء تصويته على مجلسي الشعب والشورى والرئاسة والدستور والاستفتاء؛ التي ألغيت تمامًا الآن بعد عامين ونصف العام من تضييع الوقت والمال، وكأننا كنا نلهو كالأطفال. يبدو أننا متخصصون في العودة الدائمة إلى نقطة الصفر! إن الإطاحة برئيس منتخب بهذا الأسلوب سوف تؤدى إلى العصف بمكتسبات ثورة 25 يناير، وإلى دوامات جديدة من عدم الاستقرار، وإلى استمرار تخلفنا عن العالم المتحضر.. ولكن رب ضارة نافعة، فقد أدى هذا الانقلاب إلى إظهار الحقائق كلها للشعب (ِليَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْض...).. ولو أن الرئيس بذل كل جهده لإقناع الشعب بأن الأزمات كلها مصطنعة لإحراجه، وأن دول المنطقة تعمل ضده وضد الثورة المصرية.. لما استمع له أحد، ولانتهز الإعلام الكذوب ذلك للسخرية منه؛ ولكن الانقلاب أثبت كل ذلك في لمح البصر.. لقد وجدت المعارضة أنها لا يمكن أن تفوز في أية انتخابات حرة، فلم تجد غير التحالف مع الفلول ومع أعداء مصر لاغتصاب السلطة في ظل الدبابات.. لكِ الله يا مصر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.