من الشعارات المثيرة التي استمعت إليها في كل ميادين مصر المحروسة، منذ يوم الثلاثين من يونيه شعار "الشعب خلاص أسقط النظام"، وليس كما كان في الأيام الثمانية عشر قبيل سقوط مبارك ونظامه العتيد "الشعب يريد إسقاط النظام"، وثمة فروق كبيرة بين الاستخدامين اللغويين للشعار، فالأول يعني أن الشعب، لم يكن بحاجة إلى قرار بالتنحي أو الاستقالة أو حتى العزل والإقالة من المنصب أو مجرد ظهور تليفزيوني باهت لرئيسه، حتى يعلن صراحة أنه قد تخلى عن منصبه طواعية، لأن الشعب باختصار وبدون مقاربة أو استشراف للآتي، أعلن وقرر أنه أسقط النظام والرئيس الراهن وحكومته، بل وجماعته التي طالما دشن الرئيس لها احتراماً وتقديراً رغم اعتراض أهل المحروسة وغضبها الذي لا يقاومه عنيد. وليت الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي أرشده مرشده أو جماعته بأن مصر بحق كبيرة جداً، وليس من قدرها أن تقبل الوكالة أو تفرض عليها الوصاية بدعوى الشرعية أو بدغدغة مشاعر البسطاء بتطبيق الشريعة الإسلامية، لأن مصر إسلامية بغير شعارات، وهي إسلامية لأنها تقبل الاختلاف والتعدد، وإسلامية لأنها بلد الأزهر منارة العلم في العالم، قبل أن تدرك الجماعة أنها جسد غريب وسط جموع المصريين التي لا تعرف للاستقطاب سبيلاً ولا تفطن للمغالبة طريقاً. ورغم أن الرئيس المعزول وجماعته المحظورة حتى يتم تقنين أوضاعها التي اعتزمت دائماً الالتصاق به، بوصفه المرشح الثاني لها في الرئاسة والممثل الشرعي الرسمي لها ولوجودها في مصر لم ينجحا بحق في لم شمل المصريين، بل ساعدت الجماعة على تقسيم المصريين إلى مؤيد مخلص أو معارض لئيم، وهذا ليس بجديد عليها، لأن فوز الدكتور محمد مرسي جاء منتصفاً وليس بأغلبية ساحقة، كما أن المصريين أنفسهم أرهقهم طول الانتظار في ظل حكم العسكر الذين أصبحوا اليوم لديهم حلماً ينال ومطلباً رهن التحقيق، إن التمرد انتقل تواً إلى قفزات الفعل والحدث المباشر، حينما لم ينجح النظام في أن هؤلاء الشباب الذين نادوا وهتفوا من قبل بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وبالديمقراطية لم يعودوا فئة من الصبية الصغار الذين يهرولون وراء كل مستحدث، وأنهم رغم حداثة أعمارهم فطنوا أضعاف ما تعلمناه من معارف وخبرات ومعلومات تكفيهم بحق في إدارة وتوجيه البلاد، فكان على النظام، وليته أدرك الفرصة الأخيرة، أن يعطيهم الفرصة كاملة في المشاركة لا الدخول معهم في صراعات ومساجلات تقوض أمن واستقرار الوطن. وبالرغم من أن الوطن في حالة اختلال سياسي واجتماعي منذ قيام الانتفاضة الشعبية في يناير منذ عامين ونصف، وأن كافة المسكنات التي تعاطاها لم تستطع التخفيف من أوجاعه المزمنة والحصرية بالشعب المصري، فإن حركات التمرد التي تفجرت في الوطن متسقة في الوقت والفعل بانتكاسات سياسية داخلية وخارجية، أبرزها فشل التوافق الداخلي بين فئات التصارع السياسي، والتقاعس التاريخي أمام سد النهضة دون حلول تذكر، هذه الحركات وإن باءت استشرافياً بإسقاط النظام السياسي وتحقيق جملة مطالبها التي من أبرزها وأولها رجوع جماعة الإخوان المسلمين عن دورها السياسي وعن ارتقاء المناصب التنفيذية والتشريعية في مصر، وهذا هو الوجه الحميد للمطلب الثاني، أما الوجه الآخر للمطلب هو إقصاء الجماعة من حياة المصريين، وهو مطلب رغم الاختلاف السياسي لا أراه أو أظنه إنسانياً أو شرعياً، لأن الاختلاف رحمة بين الناس، فإن هذا سيزيد من اضطراب الوطن واحتدام الصراع السياسي بين المواطنين. إن مصر من قدرها أن تحظى بثورة مستمرة، هذا القدر هو الذي يجعلها دائماً تعيش في حالة من الحراك السياسي والاجتماعي، وأن مظاهرات الثلاثين من يونيه والتي أعقبها إسقاط حكم المرشد وجماعته وفصيلته التي تؤويه من أبرز مظاهر هذا الحراك المدهش والمثير، وأن مصر التي قررت التمرد وإعلان الغضب على طريقة إقصائها المتعمد على أيدي الجماعة المحظورة، هي بحق أمة صدق فيها وصف كاتب مصر العظيم توفيق الحكيم مقولته الشهيرة "أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات، لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد". هذا الوطن الفريد والعجيب والمثير بتاريخه وحضارته وشعبه وقيمه يصعب تطويعه ولي ذراعه بتيارات وأفكار تسعى إلى إجهاض تنويره واستنارته. ومن الملامح التي استدعت الدهشة وحضورها بقوة، هو بزوغ المؤيدين لرئيس الصناديق الانتخابية الفائز وجماعته وهم يعلنون نصرة الشريعة والجهاد ضد الليبراليين الكفرة والمدنيين الفجرة والعلمانيين السحرة، رغم أنهم في زمرة وحضن وحرمة الإسلام الحنيف الجميل الرقيق، وفي الوقت نفسه يظهر الرجل الذي يؤيدونه معلناً ضرورة الحوار والتوافق والمشاركة مع أولئك السحرة الكفرة الفجرة؟ أي فصام في الفكر والتصرف ذلك تعاني منه فصائل الإسلام السياسي التي فشلت سياسياً وسقطت دينياً بفضل تصرفاتها منذ الثلاثين من يونيه. عاشت مصر التي تلفظ كل خبيث عن جسدها، عاشت مصر التي تأبى أن يُذبح تاريخها ومستقبلها، عاشت مصر الجميلة التي ترفض الاستقطاب والاستبعاد والمغالبة، مصر التي باستطاعتها أن تأكل وتبلع وتهضم كل شىء إلا (الأونطة) بلغة المصريين التي تعني الأمر الذي لا يقبله العقل ولا يرتضيه المنطق، فكيف يستطيع فصيل أن يتاجر بالدين ويستبيح الدم والعرض والنفس أن يضحك عليها، أو أن يستغل سذاجة بعض العقول وفطرتهم الطازجة في أن الشرعية هي بقاء رئيس لا يستهدف سوى مصلحة جماعته، وإن أراد الخير لمصر حقاً فهو يفشل في اختياراته وفي قراراته. كان ينبغي على رئيس مصر أن يدرك عظمة مكانتها وتاريخها، فليس من المنطقي أن تعتمد المحروسة على دول صغيرة في المنطقة هي نفسها بحاجة إلى اعتراف دولي لوجودها، وليس من المعقول أن تلجأ جماعة سرية إلى مساندة بعض الفصائل الفلسطينية لحمايتها وتأييدها وذات الفصائل بحاجة إلى من يدافع عن قضيتها الأزلية.