البيان الذي أصدرته القوات المسلحة المصرية أمس على لسان قائدها العام الفريق أول عبد الفتاح السيسي غير مسبوق منذ سلم الجيش السلطة للرئيس المنتخب محمد مرسي، وقد حرص الجيش طوال تلك الفترة التي تمتد لعام تقريبًا على أن ينأى بنفسه عن التعليق على الأحداث العامة أو ما يجري من شأن سياسي، ومن ثم كان بيانه "السياسي" أمس لافتًا جدًا ومثيرًا للتأمل، وقد صيغت عباراته بحكمة وتوازن كبير، الأمر الذي حير الناس في فهم المراد، أو بمعنى أصح سمح لكل الأطراف أن تفسره بما يتوافق مع هواها السياسي، فأنصار الرئيس اعتبروه في صالحه وأنه تحدث عن حماية إرادة الشعب، واعتبروا ذلك إشارة إلى الرئيس المنتخب، وأن الجيش يهدد المعارضة ويحذرها من العنف، قوى المعارضة من جانبها اعتبرت أن بيان الجيش هو إنذار للدكتور مرسي بأن البلد يضيع وعلى حافة حرب أهلية، وأن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الخطر الكبير، وبالتالي فبيان الجيش أشبه بالبيان الأول للمجلس العسكري السابق قبل تنحية مبارك، غير أن قطاعًا من الإسلاميين ربما فهم الرسالة بعيدًا عن أي تكلف، وبدا ذلك واضحًا في بيان الجماعة الإسلامية التي ثمنت بيان الجيش ودعت الرئيس مرسي إلى أن يبادر سريعًا إلى احتواء الانقسام، وأن يبذل جهده لتفادي انهيار الدولة، والشيخ حازم أبو إسماعيل هاجم الفريق السيسي بعنف بالغ بما يؤشر أن "الرسالة" كانت واضحة أمامه، ونداءات كثيرة صدرت من أحزاب وقوى متعاطفة مع الدكتور مرسي تفضي جميعها إلى إدراك أن بيان الجيش هو إنذار للجميع، السلطة والمعارضة، وأن الجيش ربما يتدخل قريبًا لفض الاشتباك السياسي بنفسه وتدشين صفحة جديدة في تاريخ الثورة المصرية إذا عجزت الأطراف المختلفة عن حل أزماتها خلال أسبوع، بيان الفريق السيسي اختار ألفاظه بعناية بالغة، وأنا أتوقف عند عبارات نصية منه لمحاولة فهم دلالاته بدقة، يقول البيان إن القوات المسلحة (ولاء رجالها لمصر وشعبها العظيم)، وقد تحاشى البيان ذكر كلمة "الشرعية" بالنظر إلى أن الاختلاف حولها أصبح جزءًا من الأزمة والتمزق الوطني، وأضاف البيان: (هناك حالة من الانقسام داخل المجتمع، وأن استمرارها خطر على الدولة المصرية ولابد من التوافق بين الجميع)، ومفهوم من هي أطراف الانقسام، والدعوة للتوافق موجهة للطرفين وهي إنذار لكليهما، ويضيف البيان: (من يعتقد أن الجيش فى معزل عن المخاطر التي تهدد الدولة المصرية فهو مخطئ)، وهو تأكيد على أن الجيش شريك في الوضع السياسي، لأنه ينعكس عليه هو نفسه، ثم يضيف مؤكدًا هذا المعنى: (لن نظل صامتين أمام انزلاق البلاد فى صراع يصعب السيطرة عليه)، ثم عاد لكي يؤكد: (إرادة الشعب المصري هي التي تحكمنا ونرعاها بشرف ونزاهة، ونحن مسئولون مسئولية كاملة عن حمايتها ولا يمكن أن نسمح بالتعدي على إرادة الشعب)، ومرة أخرى يتحاشى البيان استخدام مصطلح "الشرعية"، وإنما "إرادة الشعب المصري" وهي التي أصبحت مجال تنازع الآن، وهي سبب الانقسام، لأن كل طرف يدعي أن إرادة الشعب معه، ثم قال البيان: (الإساءة المتكررة للجيش وقياداته ورموزه هي إساءة للوطنية المصرية والشعب المصري بأكمله)، وهو كلام موجه إلى بعض أنصار الرئيس بصورة واضحة لا تحتمل اللبس، ثم يضيف البيان: (القوات المسلحة تجنبت خلال الفترة السابقة الدخول فى المعترك السياسي إلا أن مسئوليتها الوطنية والأخلاقية تجاه شعبها تحتم عليها التدخل لمنع انزلاق مصر فى نفق مظلم من الصراع أو الاقتتال الداخلي أو التجريم أو التخوين أو الفتنة الطائفية أو انهيار مؤسسات الدولة)، وهو يعني بمفهوم النص أن الجيش امتنع عن التدخل في المعترك السياسي، لكنه مضطر للتدخل في المعترك السياسي الآن لوقف الاقتتال الداخلي والتجريم والتخوين والفتنة الطائفية وانهيار مؤسسات الدولة، وهو كلام يصدر من الجيش بعد يومين فقط من مليونية عصيبة كانت مشحونة بكل ما يشير إليه البيان، ثم ختم البيان بقوله: (القوات المسلحة تدعو الجميع دون أي مزايدات لإيجاد صيغة تفاهم وتوافق ومصالحة حقيقية لحماية مصر وشعبها، ولدينا من الوقت أسبوع)، فالبيان ينذر الجميع بتحقيق مصالحة حقيقية وإيجاد صيغة توافق في مدة أقصاها أسبوع. البيان رسالة واضحة بأنه إذا عجزت أطراف النزاع الحالي، سلطة ومعارضة، عن تجنيب البلد ويلات الانقسام والاقتتال الأهلي، فإن الواجب الوطني يحتم على الجيش التدخل لتصحيح المسار وحل الإشكال بنفسه، وبدء صفحة جديدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.