الثورة تعني في تعريفٍ راجح: التغيير المفاجئ، والسريع الذي يُحدثه الشعب من خلال أدواته الفاعلة كقواته المسلحة، أو شخصياته التاريخية المخلصة؛ من أجل تحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات، أو للانتفاض ضد الحكم الجائر الظالم. ومن هنا نبدأ ونتساءل لعلنا نجد مجيباً يسمع ويستجيب.. هل هذه المظاهرات التي يُحشد لها الآن من كل حدبٍ وصوبٍ، ومن أطيافٍ متنافرة ستمثل ثورةً جديدة؟.. أثورةٌ هي على الثورة المصرية الأم؟.. أم هي حشدٌ ينتفض في مواجهة حاكمٍ عاجزٍ ظالمٍ وجائرٍ؟.. ومن يحركها؟ هل غضب شعبي عام وعارم اختلط بغالبية النفوس، يقوده نُخبٌ مخلصون متجردون لمصلحة البلد الطيب، أو يدعمه جيش مصر الأبي المتجرد من الهوى والانتماء إلا لمصر وحدها؟.. تساؤلات كثيرة تحتاج لإجابات شافية تريح العقل والضمير المصري الجامع. الأسف الشديد والأسى البالغ يخالج النفس حين نتتبع خطوات ومراحل تفعيل الوصول إلى هذا التاريخ، تاريخ الثلاثين من يونيه القادم، التاريخ الفاصل من وجهة نظر الداعين للتظاهر الشامل فيه.. فقد بدأ الأمر بجمع توقيعات شعبية، من خلال حملة شبابية؛ للتعبير عن عدم الرضا عن أداء مؤسسة الرئاسة وسير نظام الحكم الجديد، وقد زكى البعض هذا التوجه الجديد ورأى فيه تعبيرا سلميا جديدا، نشطا وفاعلا للمعارضة السياسية النموذجية، في حين انتقده البعض الآخر، ورأى أنه توجه يفتقد إلى الأساس القانوني أو الدستوري، وأنه لا طائل من وراء الجهد المبذول فيه.. لكن وإن كان هذا التوجه قد أحدث حِراكاً ما في المجتمع اتفق معه من اتفق، واختلف معه من اختلف، لكن حدثت المفاجأة، ووقع التحول غير المرغوب فيه يوم انقضت الغربان الجريحة على التجربة الوليدة، فركبت موجها، وحملت رايتها، نعم غربان الفشل والإفلاس الذين كان يُتوقع منهم قيادة هذه الأمة في هذه المرحلة، أو تُفترض قيادتهم لها في مرحلة لاحقة، عبر أدوات شرعية كرسها الدستور والقانون، ولكن للأسف الشديد تحولوا بدعمهم الكامل لهذه الحركة إلى توجه آخر غير الذي كان، توجه ذو غرض أكبر أعلى سقفاً، وأبعد أثراً، لا شك يحقق لهم الأماني الضائعة في إمكانية إدراك كرسي الحكم، أو على الأقل الاشتراك في الركب. نعم يحشدون الآن ليس لتعبيرٍ سلمي بصدد الاعتراض على الأداء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للرئيس وحكومته، وإنما لإجبار هذا الرئيس الشرعي المنتخب على التنحي، والدعوة لانتخابات رئاسية جديدة، وإلا التمترس في الميادين، وخلعه جبراً عنه مهما كلف الأمر، حتى لو وصل حد التناحر والتقاتل بين المصريين وليكن ما يكون!! نعم هذا شأن الأصوات العالية منهم الآن، لا تراجع عن الهدف حتى لو قامت حرب أهلية وليتحمل الرئيس المسئولية في جميع الأحوال. الرئيس الذي وإن تأخرت بعض قراراته، أو تردد في اتخاذ بعضها الآخر، أو لم يُحسن ابتداءً اختيار بعض معاونيه، إلا أنه في البداية والنهاية هو الرئيس الشرعي المنتخب لأول مرة في تاريخ هذا البلد، وهو من اجتهد، فأصاب وأخطأ، وما زال يجتهد في حدود اختصاصاته الدستورية دون جور أو ظلم والتي لا يجوز منازعته فيها إلا بطرق دستورية، وقد لاحت في الأفق على الأثر بعض مبشرات الخير، ورغم ذلك حورب الرجل حرباً شديدة، غير شريفة من كل حدب وصوب، من جانب هذه الأطياف المتنافرة، التي تجمعت فقط على تحقيق مصالحها الذاتية المشتركة، سواء من الماضي الكريه الفاسد، أو من الإعلاميين المتحولين، أبواق المال المشبوه الذين لم يغنهم تحولهم فعادوا أدراجهم في أثواب جديدة، أو من جرحى الانتخابات الرئاسية الذين فاتهم قطار الرئاسة ولن يدركوه أبداً مهما فعلوا.. ثمة أمر أخير، لن يخرج أبداً من معادلة الثورة الحقيقية، وهو يتعلق بجيش مصر. وقد حُسم - بفضل الله تعالى - توجه الجيش وموقفه من الصراع إن وقع، ومن التجاوز إن تم، ومن الفتنة إن حدثت. نعم حُسم هذا الموقف على لسان القائد العام لجيش مصر، لكن الخاسرون الفاشلون ما زالوا يصرون بكل طريقة على نزول الجيش، ويراهنون على تحولٍ مستحيل في موقفه، وأملٍ في انقضاضه على السلطة، وانقلابه على الشرعية، وهذا لن يكون أبداً، بل إن جيش مصر ومن قبله رجالُ أمنها سيعملون على أن يكون حِراك متظاهرى المصالح المشتركة محض مظاهرة تقوم وتنفض في سلمية تامة، فإن خرجت عن حدودها نال مَن وراءها ما يستحق من عقاب، وسيظل المصريون في رباط بأمر ربهم، ولن يكون بأسهم بينهم أبداً شديدًا، وإنما بأسهم على أعداء مصر وأعداء العرب وأعداء الإسلام.. هكذا تعلمنا.. وهكذا شهد التاريخ دومًا لمصر وبنيها. فهلا أعطينا رئيس مصر المنتخب بإرادة الشعب الحرة فرصته الآمنة اللازمة للقيام بمسئوليته، واستكمال مدة حكمه الدستورية، ومن ثم محاسبته.. هلا حافظنا على هذه التجربة الديمقراطية الوليدة وسرنا بها إلى نهايتها، سواء اتفقنا مع من وصل لسدة الحكم أم اختلفنا.. هلا عارضنا بأصول ديمقراطية دستورية لطالما نادينا بها واليوم ننقلب عليها ونتنكر لها.. هلا انتهجنا منهج الإصلاح والتغيير التدريجي، الجزئي، السلمي الذي يتم من خلال نظام قانوني تتوافر له الشرعية بدلاً من الانقلاب على هذه الشرعية.